الآن بعد التمدد الوهابي الذي نجح في محو كثير من التقاليد التي كانت سائدة في مجتمعاتنا ومن ضمنها إحياء ذكرى الموتى بمناسبة مرور 40 يوما على وفاتهم أصبح إحياء أربعينية الإمام الحسين عليه السلام أمرا مستغربا رغم أن هذا الإحياء يرجع إلى القرآن الكريم.
يروي القرطبي في تفسير قوله تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)،عن مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل!. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء.
إن لم تبكي الأرض والسماء على الامام الحسين فعلى من تذرف الدموع إذا؟!.
إن لم ينفر أهل الأرض العاشقون نصرة وإحياء لذكرى رمز الإباء أبي الأحرار الحسين بن علي، خفافا وثقالا فلمن تستنفر إذا؟!.
يقول تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) التوبة 41.
لا شك أن حركة الجماهير تشكل عنصرا هاما من عناصر القوة والدعم الضروري لأي مشروع فكري أو عقائدي.
عرف التاريخ نوعين من الحشد الجماهيري، حشدٌ إجرامي مثلما حدث يوم الأحزاب حيث أحاط زبانية الشر بالمدينة المنورة أملا في القضاء على شعلة الإسلام المتوقدة ومثلما حدث يوم كربلاء حيث احتشد آلاف الظلمة والبغاة لقتل الإمام الحسين انتقاما من رسول الله (يوم بيوم بدر)، وحشدٌ إلهي كان أمرا متعثرا ومتعسرا في بدايات الإسلام الأولى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة 38-39.
لم يكن تعثر حشد الجماهير نصرة للإمام الحسين يوم كربلاء ناجما عن موقف عقائدي أو حتى سياسي يرى أحقية بني أمية بالسلطة بل بسبب حالة من التثاقل والخذلان وقلة اليقين أو قلة جودة ذلك الصنف من الرجال المتوفر آنئذ وهم كانوا امتدادا لمن خذلوا رسول الله في مواطن كثيرة (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). التوبة 25-26.
الآن دار الزمان دورته بعد أن (طَلَعَ طَالِعٌ وَلَمَعَ لَامِعٌ وَلَاحَ لَائِحٌ وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ وَاسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً وَبِيَوْمٍ يَوْماً وبعد انْتَظَارْنِا الْغِيَرَ – أي التغيير- انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ).
سقط الكثير من السدود التي وضعت في وجه الجماهير من أجل منعها من التواصل مع نهج الثورة الحسينية الممتد والمتصل منذ العام 61 للهجرة وأصبح الاصطفاف خلفها والسير وراءها ممكنا ومتاحا وها هي العراقيل والعقبات تزول رويدا رويدا ليظهر المعدن الأصيل لهذه الجماهير التي طالما عيرنا هؤلاء بخذلانها المزعوم للإمام الحسين.
رويدا رويدا ينبلج النور الحسيني انبلاج ضياء الفجر الذي ما يلبث أن يمتد ويتسع ليشمل ضياؤه أهل الأرض بعد أن كان مجرد بقعة ضوء حاول أعداء أهل البيت إبقاءها محصورة في أرض كربلاء.
الآن أصبح الاصطفاف الحسيني مسيرات مليونية تتوجه نحو مركز الإشعاع الكوني الكربلائي وروحا استشهادية تستنهض همم الآلاف من رجال الله وتحفزهم لتحرير الأرض من نير الطغاة والمفسدين في الأرض وهو ما نراه بأم أعيننا في تلك التضحيات والملاحم التي يسطرها رجال الله في سوح القتال.
إنه مشهد يقترن فيه الوعي والبصيرة مع الشجاعة والتضحية بالنفس وهما أمران إذا اجتمعا لدى الجماهير يشكلان سلاحا لا يقل مضاء عن السلاح النووي بل هما أمضى منه لأن السلاح النووي سلاح تدمير شامل وخراب، في حين أن ثنائي (البصيرة والشجاعة) هما سلاح بناء ونماء.
بعد أربعة عشر قرن من الزمان لم يعد الامام الحسين وحيدا فريدا في ثلة قليلة من الأهل والأصحاب بل أصبح له جيوش مليونية تهتف: لبيك يا حسين، امض بنا حيث شئت ولو إلى عنان السماء.
بعد أربعة عشر قرن أصبح يوم العاشر من محرم ويوم العشرين من صفر يوما يحيي ذكرى الشاهد والشهيد (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).
وإنا وتلك الملايين على دربه لسائرون.
دكتور أحمد راسم النفيس
30/11/2015