من يقف على مفردات الشاعر، يجد ما في لغته من سهولة وحيويّة تحرّك الخيال، وتسرح به نحو فضاءات هذه المناسبة العطرة، فالتصوير الفني والبلاغي أبرز بشكل تلقائي ما يتمتّع به الشاعر من مقدرة عالية وبراعة في رسم المشهد وكأنه حاضر في قلبه، وَمَن غير الحسين وكربلاء يعطيان للخيال كلّ رحابة، ويعطيان للشاعرية كل إبداع كي تصول وتجول في محراب المجد والفخار، فالجراحات ولغة الدّم نسجت أجمل حكاية إباء على وجه الأرض.
يقول الشاعر في مشهديته الشعرية الرائعة:
كانهيار سمعتُ صوتكَ، لا البحرُ يَردُّ الصّدى، ولا الأشجارُ
جَفَلَت منهُ جثّةُ الشّمسِ، وانسلَّ بخيطٍ من الظلامِ النهارُ
ظامئٌٌ.. قلتَ وابتسمتَ لموتٍ صُلِبت فوقَ كفِّهِ الأنهارُ
وحملْتَ الجراحَ، والجسدَ المكسورَ حزناً، وما طواهُ الغبارُ
وعذاباً، ملامحُ الجمرِ تبنيهِ، وتنهلُّ من رؤاهُ النّارُ
واكتشفتَ احتضارنا، وانهزام الماءِ واستسلَمَتْ لكَ الأسرارُ
ورأيتَ القلاعَ شيئاً خرافياً، فللرّيحِ تنحني الأسوارُ
حيثُ عصفُ الطّوفانِ أغنيةٌ حمقاءُ كالصّمتِ، والسّيوفُ انكسارُ
فامحُ زيفَ التأريخِ واكتبْ... تناسى الماءُ وجهي، وخانتِ الأمطارُ!
يضيف الشّاعر القول:
لِعينيكَ كلُّ النّوافذِ مشرعةً،
أنتَ وحدَكَ تعرفُ عشبَ الطّريقِ،
وتعرفُ سرَّ المسافَهْ
وأنت اغترفتَ من النهرِ كلَّ الحكاي
وغادَرتَهُ ورؤاهُ خرافَهْ
وقلتَ: المرايا صحارى من الوهمِ،
فانتحرتْ في يديهِ المراي
وقلتَ: الشّواطئُ مجنونةُ الصّخرِ،
والموجُ أُرجوحةٌ من سراب،
وأنشودةُ النَّخلِ مرثيّةٌ،
والعصافيرُ منحوتةٌ من رمادْ
وقلتَ: الفراتُ المكفَّنُ يصلبُهُ ظمئي،
والنّجومُ ثقوبٌ معبّأةٌ بالحدادْ
* * *
حنانيكَ.. ما عادَ للطّينِ معنًى،
ولا البحرُ أزرقْ
لأنَّكَ غيّرتَ أشياءَها،
وتَمَرَّدتَ في زمن يتمزّقْ
غريبٌ أتفقِدُ أبعادَها الكلماتُ؟،
غريبٌ.. أتصمتُ أنتَ.. وجرحُكَ يشهقْ؟
* * *
لِعينيكَ سافرَ نهرُ الغناءْ
وغادَرتِ الأشرعَهْ
لِعينيكَ مرَّ المساءْ
على كِتَفَيْ زوبعَهْ!
لقد أجاد الشَّاعر جواد جميل في هذه الصور الشعريَّة التي تمثّلها، والتي تنبض بالحياة، وتضجّ بالصّور التي تجعلنا نطرب لها ونتفاعل بشكل يحرّك الوجدان ويثير العواطف من مكامنها.