البث المباشر

الخطبة الشخصية أو المقابلة الخطابية

السبت 10 يوليو 2021 - 20:13 بتوقيت طهران
الخطبة الشخصية أو المقابلة الخطابية

إذاعة طهران-أدب الإمام الصادق:


الخطبة الشخصية هي: خطاب يوجهه الامام (عليه السلام) الى شخص محدد وليس الى جمهور، بحيث يذكر اسم الشخص المخاطب، ويلقي عليه خطاباً مقسماً الى مقاطع متنوعة تخضع لبناء فني دون ادنى شك،.. وهذا ما يسوغ لنا درجة ضمن (لغة الفن) التي نتناولها في هذه الدراسة...
والخطبة الشخصية عند الامام الصادق (عليه السلام) تأخذ مستويين من البناء الفني، الأول هو: وحدة الموضوع، والآخر: تنوع الموضوع، الا ان كليهما يخضع لخطوط هندسية تشكل مقاطع او محطة توقف من خلال واصل فني بينهما هو اسم الشخص المخاطب...
واليك النموذج الآتي حيث وجه الامام (عليه السلام) الخطاب الى احد اصحابه وهو ابو جعفر محمد بن النعمان، وهو خطاب تطبعه (وحدة الموضوع) مع توشيحه بشذرات فكرية تتجاوزه الى موضوعات اخرى، الا ان الامام (عليه السلام) يعود من جديد الى الموضوع الرئيس، على هذا النحو:
يقول الراوي: قال لي الصادق (عليه السلام): «ان الله جل وعز عير اقواماً في القرآن بالاذاعة».
فقلت له: جعلت فداك أين قال؟
قال: قوله تعالى: «واذا جاءهم امر من الأمن او الخوف اذاعوا به».
ثم قال: «المذيع علينا سرنا كالشاهر بسيفه علينا... اني لأعلم بشراركم من البيطار بالدواب، شراركم الذين لا يقرأون القرآن الا هجراً، ولا يأتون الصلاة الا دبراً...».
بعد ذلك:‌ بدأ الامام (عليه السلام) بتوجيه الخطاب على هذه الصيغة «يا ابن النعمان»، مكرراً بين حين وآخر هذا النداء، وفق مقاطع تحوم بنحو رئيس على قضايا تتصل بالحديث، وطريقة الكلام، والمعرفة، والعلم، والثقافة وكل ما يتصل بالظواهر العقلية:
«يا ابن النعمان: اياك والمراء، فانه يحبط عملك، واياك والجدال فانه يوبقك...
يا ابن النعمان: ان المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هو اعظم وزراً...
يا ابن النعمان: انه من روى علينا حديثاً فهو ممن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأً...
يا ابن النعمان: انا اهل بيت لا يزال الشيطان يدخل فينا من ليس منا ولا من اهل ديننا، فاذا رفعه ونظر اليه الناس امره الشيطان فيكذب علينا، وكلما ذهب واحد جاء آخر...
يا ابن النعمان: من سئل عن علم فقال: لا أدري، فقد ناصف العلم...
يا ابن النعمان: ان العالم لا يقدر ان يخبرك بكل علم، لانه سر الله تعالى الذي اسره الى جبرئيل (عليه السلام) واسره جبريل الى محمد (صلى الله عليه وآله)، وأسره محمد (صلى‌الله عليه وآله) الى علي (عليه السلام)، واسره علي (عليه السلام) الى الحسن (عليه السلام)، وأسره الحسن (عليه السلام) الى الحسين (عليه السلام)، وأسره الحسين (عليه السلام) الى علي (عليه السلام) وأسره علي (عليه السلام) الى محمد (عليه السلام)، وأسره محمد (عليه السلام) الى من أسره، فلا تعجلوا...
يا ابا جعفر: ما لكم والناس، كفوا عن الناس، ولا تدعو أحداً الى هذا الأمر، فوالله لو ان اهل السموات والارض اجتمعوا على ان يضلوا عبداً يريد الله هداه ما استطاعوا ان يضلوه، كفوا عن الناس ولا يقل احدكم: اخي وعمي وجاري، فان الله جل وعز اذا اراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً الا عرفه ولا منكراً الا انكره...
يا ابن النعمان: ليست البلاغة بحدة اللسان ولا بكثرة الهذيان، ولكنها اصابة المعنى وقصد الحجة...
يا ابن النعمان: لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري. ولا تدعه لثلاث: رغبة في الجهل، وزهادة في العلم، واستحياء من الناس، والعلم المصون كالسراج المطبق عليه...
يا ابن النعمان: ان الله جل وعز اذا اراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء فجال القلب بطلب الحق، ثم هو الى امركم اسرع من الطير الى وكره...
يا ابن النعمان: ان حبنا أهل البيت ينزله الله من السماء من خزائن تحت العرش، كخزائن الذهب والفضة ولا ينزله الا بقدر ولا يعطيه الا خير الخلق، وان له غمامة كغمامة القطر، فاذا اراد الله ان يخص به من احب من خلقه اذن لتلك الغمامة فتهطلت كما تهطلت السحاب..»
:(٥).
واضح من هذا النص الذي اقتطعناه من نص طويل: قد تضمن جملة من الخصائص الفنية، منها:

*******
البناء ‌الهندسي

حيث قام بناؤه على موضوع محدد هو: رواية الحديث، وطريقة المناقشة، وثقافة الشخص، والعلم، والبلاغة.. الخ، ومجرد كون النص قد ركز على موضوع محدد، انما يكشف عن اهمية النص فنياً من حيث احكامه وعمارته، اذ ان الفارق بين النص الفني وسواه، ان النص الفني يخضع لبناء فكري متلاحم الأجزاء، كل جزء (يتسبب) عن سابقه ويؤثر على لاحقه، او كل جزء (يتنامى) عن سابقه ويتطور مثل نمو وتطور الكائنات الحية، او كل جزء (يتجانس) مع سابقه ولاحقه، او كل هذه المستويات والانواع تتلاحم وتتوافق فيما بينها، بالنحو الذي يطبع هذا النص للامام الصادق (عليه السلام)، حيث انه (عليه السلام) انطلق من مفهوم (اذاعة الحديث)، وهو المحور الفكري الذي حامت عليه اجزاء الخطاب، الا انه (عليه السلام) ادرج ضمن هذا المحور الفكري خطوطاً أخرى تتفرع منه او تترتب عليه او تتجانس واياه، أو ترتبط من بعيد او قريب بصلة فكرية بالموضوع، فمثلاً عندما عرض لمفهوم البلاغة من انها (اصابة المعنى وقصد الحجة) وليست (حدة اللسان وكثرة الهذيان) انما جانس بذلك الموضوع الرئيس اذاعة‌ الحديث، فالمذيع للحديث قد تدفعه الى ‌ذلك نزعات وحوافز ذاتية مثل (حدة اللسان) يستجلب بها تقدير الآخرين لشخصه، ومثل (حب الكلام بعامة) حتى لو كان ثرثرة( كثرة الهذيان)،.. وحينئذ تظل اشارته (عليه السلام) الى ان البلاغة‌ ليست حدة اللسان وكثرة الهذيان، مرتبطة - عضوياً- بالموضوع الرئيس (اذاعة الحديث)... كذلك عندما يطرح الامام (عليه السلام) مفهوماً مثل:
(يا ابن النعمان: لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري...)... انما يربطه ايضاً بالموضوع الرئيس (اذاعة الحديث) فالمذيع للحديث- دون ان تكون له مسوغات- انما يصدر عن نفس مريضة تحوم على الذات: مثل الرياء حتى يكسب سمعة اجتماعية من خلال العلم، او ليعوض النقص لديه بإثارة الجدال،.. الخ.
إذن: بهذا المنحى الفني من الطرح يكون الامام (عليه السلام) قد طرح موضوعاً رئيساً يستهدفه هو (عدم اذاعة الحديث لغير مناسبة)، ولكنه (عليه السلام) في نفس الوقت طرح مفهومات متنوعة مثل ضرورة تعلم العلم من أجل الله تعالى وليس من اجل الرياء والمباهاة ‌او الجدال، ومثل تحديده للبلاغة بأنها اصابة المعنى وقصد الحجة،... الخ، حيث ربط هذه الموضوعات بالموضوع الرئيس، وهذا هو واحد من اسرار الفن المدهش، حيث نكرر دائماً - وهذا ما انتبه عليه كبار الفنانين المعاصرين- بان طبيعة التجارب التي يحياها الانسان تفرض عليه صياغتها وفق مبنى هندسي لا يقف عند تناول جزئية صغيرة من التجارب بل جزئيات متنوعة، على ان يصل بينها بوصل فني، وهذا ما لحظناه بوضوح في النص المتقدم،... بل ان الاعمال الفنية الضخمة التي تستهدف دلالة محددة مثلاً ولكنها تستهدف دلالات ثانوية او دلالات اخرى اكثر اهمية من الموضوع (الرئيس) انما تسلك منحى فنياً خاصاً لادراج هذه الدلالات الثانوية او الأشد اهمية ضمن النص بطريقة غير مباشرة على نحو ما صنعه الامام (عليه السلام) عندما طرح افكاراً تتصل بالبلاغة وبضرورة العلم من اجل الله عز اسمه، طرحها من خلال منحى غير مباشر، حيث وردت في سياق حديثه عن اذاعة‌ الحديث فيما يتداعى الذهن منه الى المشكلات المرتبطة برواية الحديث ومنها البلاغة او العلم، بالنحو الذي لحظناه.

*******


(٥) نفس المصدر: ص ۳۲۰،۳۲٥.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة