البث المباشر

الرسائل والمقالات والمقابلات والمناظرات

السبت 10 يوليو 2021 - 20:20 بتوقيت طهران
الرسائل والمقالات والمقابلات والمناظرات

إذاعة طهران-أدب الإمام الصادق:

ان طبيعة العصر الذي واجهه الامام (عليه السلام) ووفود الناس على مجالسه ومحاولة الافادة منه في كل مجالات المعرفة فرضت على الامام (عليه السلام) ألواناً من المقالات والمكاتبات والمقابلات. طبيعياً، لا نتوقع في امثلة هذه الاشكال ان يشحنها (عليه السلام) بمثل الشحن الفني الذي لحظناه في مقابلته الشخصية السابقة، فهو حين يوجه رسالة عامة مثلاً الى المومنين، حينئذ لا نتوقع منه الا أن يكتبها بنحو تعرفه عامة‌ الناس،... وهذا مثل ما جاء في رسالته:
«اما بعد: فسلوا ربكم العافية، وعليكم بالدعاء والوقار، والسكينة والحياء، والتنزه عما تنزه عنه الصالحون منكم، وعليكم بمجاملة اهل الباطل، تحملوا الضيم منهم، واياكم ومماظتهم... الخ»:(٦)... فهنا يقدم (عليه السلام) توصيات تتصل باحدى عمليات التفاعل الاجتماعي التكيف مع الآخرين: ومثل هذا التكيف يفرض لغة مباشرة خالية من الايقاع والصورة ونحوهما...
والواقع ان السياق الواحد نفسه يفرض لغة تتميز عن الأخرى عندما يتطلب نفس السياق ذلك،... فمثلاً في احدى مقابلاته (عليه السلام) مع احد الاشخاص نجده يتحاور مع الشخص المذكور بلغة متفاوتة،... لقد سأل الرجل الامام (عليه السلام) هذا السؤال: كم محبوكم يا ابن رسول الله؟ فاجابه (عليه السلام) بأنهم طبقات فمنهم احبوهم في السر، ومنهم في العلانية، ومنهم في كليهما، وقال (عليه السلام) عن هذه الطبقة: «هم النمط الأعلى، شربوا من العذب الفرات وعلموا بأوائل الكتاب وفصل الخطاب وسبب الأسباب، فهم النمط الأعلى، الفقر والفاقة وانواع البلاء اسرع اليهم من ركض الخيل.. الخ»:(۷) ففي هذا النص نجد قيماً ايقاعية ملحوظة من نحو (الكتاب، الخطاب، الأسباب) حيث اعتمد النص على العبارة المقفاة، ونجد كذلك قيماً صورية مثل (العذب الفرات) و(فصل الخطاب)، حيث ان الصورة الأولى هي (رمز) والصورة الثانية (تضمين) كما ان هناك صورة‌ ثالثة هي التشبيه (اسرع اليهم من ركض الخيل)... فالمحاورة هنا اعتمدت (لغة الفن) بكل مستوياته بما في ذلك انتقاء العبارة الفنية حتى لكان الامام (عليه السلام) نسج خاطرة فنية نثرها على المستمع.... انظر الى قوله (عليه السلام) (شربوا من العذب الفرات) مثلاً تجدها عبارة فنية صرفة سواء اكانت من حيث الصياغة اللغوية او الصياغة الصورية، فهي مشحونة بايحاءات متنوعة تفجر لدى المستمع اكثر من دلالة وتصور وخاطرة لان (العذب الفرات) قد يتداعى بذهنه الى (النهر) وقد يتداعى بذهنه الى‌ ما هو (عذب) مطلقاً،...ثم قد يستخلص منها دلالات الحب والنقاء والطهر والخير... الخ، وحتى العبارات غير المصورة ‌تمضي منتقاة منتخبة، مصوغة بلغة مشرقة تحفل بصنوف من القيم اللفظية الجميلة من نحو (بهم يشفي الله السقيم، ويغني العديم، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، وهم الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً وخطراً)... فهنا نلحظ الايقاع اولاً: (السقيم، العديم) (تنصرون، تمطرون)... حيث الجمل المقفاة والمتوازنة‌ ايضاً، كما نلحظ قيماً لفظية من نحو التقابل: (الأقلون، الأعظمون) ومن نحو التكرار: (بهم تنصرون، بهم تمطرون)...
لكن، حيال هذه المحاورة التي حفلت بلغة الفن الصرف نجد محاورة أخرى مع نفس الشخص وفي نفس المقابلة، الا أن السؤال يتعلق بصفات الله تعالى حيث أجاب (عليه السلام): «من زعم انه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم انه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد امر بالطعن لان الاسم محدث، ومن زعم انه يعبد الاسم فقد جعل لله شريكاً، ومن زعم انه يعبد المعنى بالصفة لا بالادراك فقد احال على غائب، ومن زعم انه يعبد الصفة والموصوف فقد ابطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، ومن زعم انه يضيف الموصوف الى الصفة فقد صغر الكبير، وما قدروا الله حق قدره» (۸)... فهذا النص يتم في جلسة واحدة مع شخص واحد، الا انه يختلف عن سابقه في (اللغة التعبيرية).. هنا يسيطر (المنطق) على اللغة،.. هناك يسيطر (الوجدان) ومن ثم متطلبات اللغة الوجدانية من ايقاع وصورة... لماذا؟ لأن السؤال هناك عن (محبة اهل البيت) والمحبة عنصر وجداني. اما السؤال هنا فهو عن (صفات الله تعالى او التوحيد) وهذا ما يتطلب منطقاً واستدلالاً كما هو واضح.
اذن: السياق الواحد ذاته يفرض اكثر من لغة تبعاً لمتطلباته التي عرضنا لبعض نماذجها، سواء اكان ذلك خطاباً ام رسالة ام مقابلة ام مناظرة... ففيما يتصل بهذا الشكل الأخير وهو المناظرة سبق ان اوضحنا أن طبيعة العصر الذي نشطت فيه بحوث العقائد وسواها فرضت قيام مجالس علمية وادبية يتناظر ويتناقش فيها المعنيون بشؤون المعرفة والأدب، ولابد حينئذ ان تبرز المناقشة من خلال البراعة اللغوية والمنطقية في المقام الأول، وليس من خلال الاعتماد على عناصر ايقاعية وصورية‌ ولفظية، كما هو واضح...
ولعل ابرز ما تتفاوت فيه اللغة بين التعبير الفني الصرف والتعبير المباشر او الموشح بالفن هو:
*******

(٦) نفس المصدر : ص ۳۲٥،۳۲۸.
(۷) نفس المصدر: ص ۳٤۰.
(۸) نفس المصدر: ص ۳٤۱.
*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة