نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها ادعية الامام المهدي (عليه السلام) حيث حدثناك عن احد ادعيته الخاص بتعقيب صلاة الفطر، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (اللهم اقلبني من مجلسي هذا)، الى ان يقول: (مستجاباً لي دعائي، مرحوماً صوتي، مغفوراً ذنبي، معافي من النار، ومعتقاً منها عتقاً لارق بعده ابداً، ... الخ)، هذه الفقرات من الدعاء تتضمن جملة توسلات بالله تعالى ترتبط بمغفرة الذنب، والعتق من النار، الا انها مشفوعة بنكات وطرافة وعمق يتطلب مزيداً من التوضيح، وهذا ما نبدأ به الان.
العبارة او الفقرة الاولى تقول: (مستجاباً لي دعائي) وهي عبارة لا تحتاج الى توضيح، ولكنها تجسد توسلاً عاما ذا دلالة اجمالية او عامة، تتكفل العبارات الواردة بعدها بتفصيل ذلك، ولعلك تلاحظ بان التوسل بان يستجيب الله تعالى دعاء القارئ للدعاء هذا انما هو مجمل ليس فيه تفصيل الحاجات، وحتى التفصيل الوارد بعده يتحدث عن مطلق الذنب، ولكنه مشغوف بتوسلات رقيقة، منها قوله تعالى (مرحوماً صوتي)، فهنا عليك بان تلاحظ جانباً، من نكات الدعاء وهو: الحديث عن الصوت، والصوتيعني: ان قارئ الدعاء يجهر أو يخفت بصوته ولكنه في الحالتين تعبير عن تصاعد المد العاطفي لقارئ الدعاء، بخاصة انه يطلب بأن تشمل الرحمة الالهية صوته، وبذلك يخلع على العبارة بعداً عاطفياً وبلاغياً له اهمية من نسيج الدعاء.
بعد ذلك نواجه عبارة (مغفوراً ذنبي)، وبهذه العبارة نواجه تفصيلاً له اجماله ايضاً، الا وهو غفران الذنب مطلقاً، وهل ثمة حاجة اشد الحاحاً من غفران الذنب، وكسب رضاه تعالى؟، ثم ماذا نواجه؟
نواجه عبارة (معافي من النار)، وهي عبارة لها دلالتها ومن ثم لها ملحقاتها التي تتسم بما هو طريف من الدعاء، حيث يطلب قارئ الدعاء المعافاة وهو تعبير فني له اثارته دون ادنى شك، حيث يجسد استعارة دلالية هي: اكساب الخلاص من النار طابع (المعافاة)، والطرافة هنا، ان العافية المادية تعني: الخلاص من المرض، وها هو الدعاء يطلب او يتوسل بان يخلص الله تعالى القارئ للدعاء من شدة مادية ولكنها ليست مرضا بل شدة اخرى مادية هي: احتراق البدن وليس المرض العادي للبدن.
بعدها نواجه عبارة طريفة هي: (ومعتقا منها عتقا لا رق بعده ابداً)، ان هذه العبارة من النصوص النادرة في تعبيرها الفني، حيث استخدم ظاهرة (العتق) ليس في صياغتها المألوفة اي (العتق من النار) بل في صياغة جديدة تضيف الى ما تقدم عبارة:(لارق بعده ابداً)، وهنا تكمن الطرافة بشكل وضوحها، وتسأل: كيف ذلك؟
ويجيب: انه من الممكن مثلاً ان يتجاوز عن ذنب لعبد في ظاهرة خاصة بالله تعالى، ولكن لا يتجاوز عن الذنب المرتبط بحقوق الناس مثلاً، ولذلك من الممكن ان يعتق من النار بالنسبة الى حق الله تعالى ولكن لاعتق من النار بالنسبة الى حق الناس، من هنا تجئ عبارة (لارق بعده)، اي: حتى في المثال المتقدم يتوسل العبد بالله تعالى ان يعتقه من النار وذلك بما هو منصوص عليه بان الله تعالى يتدخل في ذلك من خلال تنازل يرتبط بالشخص صاحب الحق، اي: ان صاحب الحق بدوره يحتاج الى تنازل الاخرين ممن غمط حقهم أو تضاف اليه حسنة او تغفر له سيئة الخ، والمهم هو: الخلاص من النار باية وسيلة يتفضل بها الله تعالى لانقاذ عبده وتحريره من الرق، من النار.
ثم يختم المقطع بعبارة: (ولا رهبة يا رب الارباب)، اي: لارهبة من اي تصور للرق بمختلف مستوياته، وهو تعبير بلاغي فائق عن طرافة التوسل بالله تعالى، وطرافة الخلاص من النار، في شتى المستويات.
ختاماً امكننا ان نتبين مستويات النكات او الطرافة او العمق الذي اتسم به مقطع الدعاء، سائلين الله تعالى كذلك ان يعتقنا من النار عتقا لارق بعده ولارهبة، كما نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******