البث المباشر

الأساطير المرتبطة بالظواهر الطبيعية ۱

الأحد 30 يونيو 2019 - 10:31 بتوقيت طهران

بسم الله الرحمن الرحيم أعزائنا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم واهلاً بكم، أعزائي المستمعين يسرنا أن نلتقيكم من جديد عند حلقة اخرى من برنامجكم الأسبوعي المتجدد حكايا وخفايا حيث ما نسجته مخيلة البشر عبر العصور حول ما يحيط بهم من ظواهر عبروا عنها بقصص وحكايات وأساطير حاولوا من خلالها تفسيرها والتعبير عن مواقفهم إزاءها ندعوكم للمتابعة.
أيها الأخوة والأخوات كان القمر بإعتباره أحد الجرمين الكبيرين اللذان يؤثران في ظواهر الطبيعة والحياة والكون تأثيراً عميقاً من المحاور الرئيسية للفكر الأسطوري عند الانسان القديم حتى رفعه الى مقام الألهية والتقديس كما أن ملاحظة الانسان للتغير الظاهري في شكل القمر جعله يقرن هذا الكوكب بما يلاحظه على الكائنات الحية من نمو يبلغ حداً معيناً من الإكتمال ثم يأخذ بعد ذلك في التناقص والأفول وقد جعل الانسان القديم القمر من المعالم التي يتوسل فيها بالتفاؤل والتشاؤم فإذا به يتفاؤل به لأول الشهر ويتشائم للخسوف الذي يجعل صورة القمر حمراء تبدو كالدم ولاتزال الى يومنا هذا عقائد شعبية كثيرة ترتبط بتلك الظواهر بل إن الألفاظ الدالة على القمر في كثير من اللغات لاتزال تحمل هذه المعاني.
يضاف الى هذا كله أعزائي المستمعين أن تذكير هذا الكوكب او تأنيثه إنما يرجع الى التصور الأسطوري عند الشعوب ولما كان القمر مرتبطاً بالليالي في حياة الانسان فقد تصوره كائناً حكيماً يعرف بالتعقل والإتزان في السلوك وجعله رمزاً للخير والخصب والجانب الإيجابي للحياة في الغالب وقارنه بالمطر والغيث ولما كان القمر يرتبط ايضاً في تصور الانسان بخصوصيات المرأة او بالتحول من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة فقد اصبح القمر ايضاً يدل على الحب والشهوة. وفي المأثورات الشعبية عادات وتقاليد ومراسيم وإحتفالات خاصة بالقمر عند ظهوره وعند إكتماله وعند خسوفه وهي تتشابه في بعض أشكالها ومضامينها وتختلف بإختلاف الشعوب ومراحل التطور الفكري في بعض العلاقات والتفاصيل.
أعزائي الكرام إحتفلت الأساطير المصرية بالقمر قبل عصر الأسر الحاكمة بزمن غير قصير ويرتبط هذا الكوكب بالإله تحوت الذي كان كاتب الآلهة في مصر القديمة والمشرف على حساب الموتى وإله الحكمة والسحر والتعليم وراعي الفنون ومخترع الأرقام والحساب والهندسة والفلك وما اليها من المعارف التي أحاط بها المصريون القدماء قبل ذلك العصر وكان بحكمته وإتزانه قادراً على أن يفض المشكلات التي تنشأ بين الآلهة كما كان على علم بالصيغة السحرية التي تمكّن الموتى من إجتياز العالم السفلي بسلام.
وهذا الإله المرتبط بالقمر هو الذي تدخل في الصراع بين أوزريس وإيزيس وحورس من جانب وبين الست من جانب آخر وتحوت كما يقول مؤرخو الأساطير من أقدم الآلهة المصرية القديمة وكان يتمثل في صورة إنسان له رأس العجل فيحمل القلم والدواة بإعتباره كاتب الآلهة كما كان يبدو بصورة فرد على رأسه القرص القمري والهلال وقلما بدت صورته منفرداً وكثيراً ما ظهر وسط الحفل الجنائزي على رسوم المقابر ومن أشهر صوره مراجعة حسنات الموتى وسيئاتهم او مساهمته في يوم الحساب. يقرأ الميزان الذي كان القلب الانساني يوزن فيه مقابل ريشة الحقيقة ومن الواضح أن علاقته بالحساب والقياس جعلته يرتبط بالقمر وأصبح يرادف الإله هرمس عند اليونان وهو الذي أسبغت عليه صفات الإله المصري القديم تحوت.
أعزائنا المستمعين ولما كانت السنة البابلية قمرية فقد إحتل إله القمر البابلي سن مكاناً بارزاً بين الآلهة في بلاد الرافدين والراجح أن إرتباطه بالتقويم جعله يكتسب اللقب الذي أشتهر به وهو إله الحكمة مما يدل على التصور العام للقمر بالإتزان في الحركة والسلوك وكانت مدينة اور مقر عبادته وقد إكتنف الغموض الأسطورة الخاصة به الى حد كبير بيد أننا نلاحظ مدى الإجلال الذي كان يحظى به من احد النصوص التي عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال والذي يصفه بأنه إله يسع حبه السموات القصية والبحر والمحيط.
وكما إرتبط إله القمر المصري تحوت بالإله راع فإننا نجد أن إله القمر البابلي سن يرتبط ايضاً بإله الشمس شمش ومن الشواهد على ذلك أن جلجامش الشهير عندما إمتلأ قلبه بالفزع من الموت بادر بالرحلة الى سلفه اوتانا بشتن طلباً لماء الحياة وكان عليه أن يجتاز سلسة من الجبال تقطنها وحوش ضارية وتخليص سن من براثنها وإستطاع جلجامش أن يتابع رحلته بأمان لكنه إنتهى آخر الأمر الى جبل أعظم إرتفاعاً من الجبال السابقة وعلى حراسته رجال كالعقارب وهو جبل ساتو الذي تضرب عنده الشمس.
أعزائي الكرام اذا ما إتجهنا الى اليونان وما عرف عنها من فكر أسطوري متجذر في أعماق تراثها فإننا نلتقي عند تشخصي القمر بصورة إلهة هي سيلين وهي إلهة القمر وتظهر أهميتها في أسطورة أندميون التي تتسم بالشاعرية والأسطورة وتمتاز هذه الأسطورة أن جمال أندميون فتن إله القمر سيلين فهبطت على جبل لاتموس لكي تكون الى جانبه وكما حدث لكل أنسي عشقته واحدة من الآلهة فقد تعرض أندميون لما يشبه الهلاك وسوى دعا زييوس كبير الآلهة أن يمنحه النوم الى الأبد حتى يستمتع بلقاء إلهة القمر في أحلامه أم أن سيلين سحرته لكي تستمتع بصحبته على الدوام فقد إستغرق في نوم أبدي وعرف أنه عاشق القمر الذي لايصحو أبداً.
وإشتهرت سيلين بأنها تمنح القدرة على الإخصاب والنمو في عالمي النبات والحيوانات ويدعون الناس عند ظهور الهلال وإكتمال القمر وفي عصر الهيلين أعتقد اليونانيون بأن سيلين هي المكان الذي تأوى اليه أرواح الموتى وفي هذا مشابهة لإعتقاد المصريين القدماء والتي تقرن القمر بالظلام وبما وراء الحياة. وأصبحت المراحل الأخيرة من العصر اليوناني ترادف آلهة أخرى لعل أهمها لونا وآرتميس.
ونتجة بعد ذلك إخوتنا المستمعين الى صورة مؤنثة أخرى للقمر في الأساطير اليونانية هي صورة آرتميس الربة العذراء للطبيعة والقمر وكانت في الأصل إلهة البحيرات والأنهار والغابات والحياة البرية خاصة حيوانات الصيد مثل الغزال والوعل والخنزير البري وقد إرتبطت كغيرها من ربات القمر بالحب والخصب. ومن الطقوس التي إرتبطت بآرتميس والتي تحسم التحول من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة التي تنفتح فيها النزعات الغريزية والعاطفية أن تعبّر الفتيات من الخامسة الى العاشرة عن فرحهن في ملابس زاهية يمثلن الدببة ولم يكن يسمح لبعض مناطق عبادتها بزواج أية فتاة قبل أن تقوم بهذه الشعيرة. ومن المألوف أن ترتبط ربة القمر آرتميس بالطبيعة ولذلك نراها ترعى الصيد في الغابات والنبات البري وتعاونها الحوريات الموكلات بالآبار والينابيع. وفي ربوع كثيرة من بلاد اليونان القديمة كان بعض الراقصون يلبسون الأقنعة وهم يحتفلون بشعيرة من شعائر ربة الطبيعة والقمر. وكانت الفتيات تغنين أنشودة قبيل الفجر وتذهب بعض الروايات القديمة الى أن الفتيات يقدمن لآرتميس أحرازاً وهذا يدل على أن الآلهة بسطت رعايتها على الفلاحة المعتمدة على إرادة الانسان.
وقد إمتد سلطان آرتميس الى السحر والليل والقمر وكانت تظهر حاملة شعلة قد تكون رمزاً للقمر ولعل اسم ربة القمر لونا لايزال مردداً الى اليوم وهي وإن لم تبلغ في وقائعها وشعائرها ما بلغته آرتميس إلا أن الإرتباط القمر بالفكر الأسطوري يقرنها بالسلوك غير المعقول فقد كان من عقائد الانسان قديماً أن القمر يؤثر على سلوك الناس ويخرجهم من التعقّل وهكذا فقد إجتمع في تشخيص القمر النقيضان، الحكمة المتزنة كما يمثلها الإله تحوت والتهور والجنون الذي تمثله ربات الطبيعة البرية اللائي صورتهن الأساطير موكلات بالقمر ايضاً. ولانزال اعزائي المستمعين الى الآن نشهد عادات لها أصل أسطوري كما أنها تفسّر تصور الانسان القديم للقمر ومكانته ولكن إنتصار الانسان ووصوله الى القمر لايقضي على المأثورات الشعبية وتدل الشواهد التي تدل الى الآن على المأثورات التي لها علاقة بالقمر تتشابه في أكثر البيئات فيها على تفاوت الحياة فيها بين البداوة والإستقرار الزراعي والموازنة بين أحلام الانسان كما صورتها أساطيره وبين إنتصاراته بفضل العلم مما يؤكد مشاركة الجماعات الانسانية كلها في تحقيق تلك الإنتصارات الباهرة.
وبهذا نصل الى ختام جولتنا مستمعينا الأفاضل في هذا الأسبوع في عالم القصص والأساطير الحالم والغامض، على امل أن نكمل جولتنا هذه في الأسبوع المقبل إن شاء الله في عالم الأساطير المرتبطة بظواهرالطبيعة ضمن برنامج حكايا وخفايا والذي يأتيكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران. نتمنى لكم اطيب الأوقات وأجملها والى اللقاء.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة