الحلقة الأولي: حكايات "گلستان" أو "روضة الورد" لسعدي الشيرازي
أحبتنا المستمعين الأفاضل، أسعد الله أوقاتكم بكل خير، ومرحباً بكم في الحلقة الأولي من هذا البرنامج الذي نأمل أن ينال رضاكم، ويزودكم بمعلومات عامة حول التراث الأدبي الفارسي، وما يحفل به من تجارب في الحياة جسّدها الكتاب والشعراء الإيرانيون من خلال قصص وحكايات معبرّة ازدانت بها كتبهم ودواوينهم، بادئين تطوافنا هذا في روائع الأدب الفارسي عبر استعراض ما يزخر به كتاب ((گلستان)) أو ((الروضه)) للشاعر والأديب الكبير سعدي الشيرازي من قصص وحكايات سطرها بأسلوبه الفني الرفيع الذي عرف به من بين الكتّاب والشعراء الآخرين.
ضيف البرنامج: الدكتور سعد الشحمان
المحاورة: في اولى حلقات هذا البرنامج استضفنا الدكتور سعد الشحمان، دكتور اهلاً بك في برنامج ذخائر العبر
الشحمان: اهلاً ومرحباً بكم وبكل المستمعين الكرام في كل مكان من خلال هذا البرنامج
المحاورة: استاذة ماذا عن اهمية هذا الكتاب ومكانته بين الاثار الادبية الاخرى والتأثير الذي تركه على اسلوب الكتابة الفنية؟
الشحمان: في الحقيقة كتاب الكلستان او كتاب روضة الورد وهو المعادل العربي لعنوان هذا الكتاب كما ترجم الى اللغة العربية من حيث التقسيم والتبويب يضم هذا الكتاب ديباجة او مقدمة ويشتمل على ثمانية ابواب، باب خصص لسيرة الملوك وباب اخر في اخلاق الدراويش او الفقراء او كلمة الدرويش حقيقة تعطي معنى اخر وهو العارف او المتصوف والسالك وباب اخر في فضيلة القناعة وفي فوائد الصمت وفي العشق والشباب وباب في الضعف والشيخوخة وباب اخر في تأثير التربية والباب الاخير خصصه سعدي لأداب الصحبة او المعاشرة. في الحقيقة هذا الكتاب انتهى سعدي الشيرازي من تأليفه في العام ٦٥٦ للهجرة اي في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والاسفار والرحلات المتتابعة التي قام بها هذا الشاعر والاديب في اقطار العالم الاسلامي المختلفة والتي استمرت لمدة ثلاثين عاماً زار خلالها الكثير من البلاد الاسلامية ومنها افغانستان والهند واليمن والحبشة ومكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق، زار ايضاً بلاد الشام ومن بين المدن التي اطال الاقامة فيها مدينة دمشق حتى قيل انه تزوج هناك في هذه المدينة وايضاً شد الرحال الى مدينة القدس، هذه الرحلات التي قام بها شاعرنا رفدته بالكثير من التجارب والخبرات في مجال العلاقات الاجتماعية وفي مجال طبائع الناس واخلاقهم واستطاع خلال هذه السنين الطويلة ان يخالط الكثير من الناس من شتى الاجناس والطبقات فهو في هذا الكتاب اودع خلاصة تجاربه وعصارة خبرته حول المجتمع الاسلامي في ذلك الوقت وساق في هذا الكتاب الكثير من الحكم والامثال والقى نظرة عميقة وفاحصة الى الحياة في مختلف مجالاتها وكانت نتيجة كل ذلك تأليفه لهذا الكتاب الرائع والخالد الذي صار فيه مشاهداته ومسموعاته على شكل قصص اخلاقية رائعة ومؤثرة حقاً وزود كتابه بصور ناطقة حية عن العالم الذي عاش فيه.
المحاورة: شكراً استاذ على هذه الاجابة، مستمعينا الكرام بعد فاصل قصير نعود اليكم.
أعزتنا المستمعين!
حول سير الملوك وما ينبغي أن يكونوا عليه من تعامل مع الرعية، ومن هم دونهم أورد سعدي الشيرازي الكثير من القصص الجميلة المعبرة بأسلوبه الأدبي الراقي الذي زاد من جمال تلك القصص وروعتها؛ فجمت بين جمال الأسلوب والسبك، وبين روعة الغرض والمضمون؛ فمن الحكايات الحافلة بالعبر والدروس والتي سطرها قلمه في هذا المجال، تطالعنا الحكاية التالية:
((حكي أن أحد ملوك العجم كان قد أطال يده إلي أموال الرعية وباداهم بالجور والأدية، فضرب الناس في الأرض هرباً من مكايد ظلمه وفضلوا الغربة علي المذلة من كربات جوره، وفي يوم من الأيام كانوا يقرؤون بمجلسه كتاب الشاهنامة في زوال مملكة (الضحاك) وقيام دولة (أفريدون) فسأل الوزير الملك: كيف أصبحت السلطنة لأفريدون مع أنه ما كان له ملك ولامال ولاحشم؟ فأجابه الملك: كما سمعت أنت أن خلقاً تعصبوا له فقوّوه وأيدّوه، فنال بهم الملك، فقال له الوزير: إذا كان تعصب الناس وتأييدهم يوجبان السلطنة، فلماذا شتّت شمل الرعية وأبعدتها عنك فأنت- إذن- لاتريد أن تتمسك بالسلطنة؟
فسأله الملك: ما هوالسبب في جمع الجند والرعية؟ فقال: يلزم علي الملك أن يكون عادلاً حتي تلتف حوله الخلق، وأن يكون رحيماً حتي تعيش الناس آمنة بظل دولته، وأنت عاطل من هاتين الحليتين!)).
المحاورة: مستمعينا الكرام نعود مرة اخرى الى الدكتور سعد الشحمان، اهلاً بك استاذ
الشحمان: اهلاً وسهلاً بكم
المحاورة: دكتور ماهي الاسباب التي دعت الادباء الايرانيين الى توظيف هكذا اسلوب في كتبهم المختلفة؟
الشحمان: هذا الاسلوب وهو استخدام الاسلوب القصصي في عرض القيم والمبادئ الاخلاقية والتربوية في الحقيقة يعتبر من اكثر الاساليب تأثيراً في دعوة الاخرين وخاصة الجيل الشاب الى القيم الاخلاقية السامية والى مكارم الاخلاق فهذا الاسلوب يمثل اسلوباً تربوياً ناجحاً استعانت به كل الامم والشعوب، لا الامة الايرانية فحسب وانما جميع شعوب العالم توسلت بهذا الاسلوب في تربية اجيالها من خلال نقل القصص والحكايات والنوادر الطريفة المعبرة والاستعانة بهذه الحكايات والقصص في ترسيخ المفاهيم التربوية والاخلاقية في النفوس والاذهان فهذا الاسلوب يعد اقصر الطرق في نقل هذه المفاهيم وفي تربية الاجيال المختلفة ونلاحظ لدى الادباء والشعراء والمتصوفين والعرفاء الايرانيين على مر العصور وفي الاثار التي تركوها والكتب والمؤلفات نلاحظ عناية خاصة بهذا الاسلوب فأننا قلما نجد كتاباً ادبياً او فكرياً او فلسفياً او عرفانياً الا واشتمل على الكثير من القصص ومن الحكايات حتى ان بعض هذه القصص جاءت على لسان الحيوانات كما نلاحظ ذلك في كتاب مرزبان نامة فحاول اصحاب هذه الكتب نشر القيم الاخلاقية بين افراد مجتمعهم من خلال ايراد ودرج هذه القصص التي جمعت بين المتعة والتشويق من جهة وبين الفائدة والثقافة من جهة اخرى.
المحاورة: شكراً استاذ، نشكرك على هذا الحضور في برنامج ذخائر العبر
الشحمان: نحن ايضاً نوجه شكرنا الى اليكم والى المستمعين الكرام على اتاحتنا هذه الفرصة.
أحبتنا المستمعين! يتحفنا شيخ شيراز وبليغها في باب الضعف والشيخوخة. بحكايات وقصص بالغة الروعة تزينها النصاحة والبلاغة، وتكلّلها المضامين الشائعة المعبّرة بتاج من الدروس والعبر؛ فمن جملة ما يرويه في هذا الباب، حكاية طريفة تتخللها الأشعار والأبيات السلسة الرائعة تفيد بأن علي الانسان ان يستغل فرصة حياته وفسحة عمره في عمل الخير وتحصيل الأجر والثواب قبل أن تدركه الشيخوخة فتضعفه أوقبل أن يداهمه الموت فيقول متحسراً: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)، فيأتيه النداء: (كلا إنها كلمة هوقانلها ومن ورائهم برزخ إلي يوم يبعثون)
يقول سعدي في هذه الحكاية:
((بينما كنت مستغرقاً في البحث مع طائفة من العلماء في المسجد الجامع بدمشق إذا بشاب دخل علينا وقال: أبينكم من يعرف الفارسية؟ فأشار الجماعة إليّ فسألته: ما شأنك؟ فقال: شيخ سلخ مائة وخمسين ربيعاً تركته يعالج ألم النزع وهويتكلم الفارسية، ولم نفهم ما يريد فلوأنك كلّفت نفسك وذهبت معي اليه لنلت أجراً جزيلاً، إذ ربما أنه يؤدي وصيته، فلم أتردد وسرنا إليه جميعاً ولما جلست عند وسادته سمعته ينشد:
أريد لأنفاسي امتداداً وفسحة
فإني وقد عيّت بمخرجها أفّ
فمن سفرة العمر العزيز فواكهها
أكلنا ولم نشبع، فقالوا لنا: كفّوا!
فترجمت للدمشقين معني ما قاله بالعربية، فتعجبوا من طول عمره وتأسفه علي الحياة الدنيا وسألته: كيف تري نفسك في هذا الحال؟ فأجاب: ماذا أقول؟
ألا تري أيّ آلام تنال فتي
من قلع ضرس أصابتها يد الزمن
قش ساعة النزع ما حال الشقي وقد
سلّت بها روحه قسراً من البدن
فقلت له: اطرد شبح الموت عن مخيلتك، فلوأمرت لدعونا طبيباً لمعالجتك لكان خيراً لك، فقال: هيهات!، وأنشد مرتجزاً:
يزخرف القصر الأمير المنّعم
والقصر من أساسه ينهدم
قد يأس الطبيب إذ يري الخرف
من المريض إن مزاجه انحرف
أجل إذا ما انحرف المزاج
فلا الرّقي تجدي ولا العلاج!
بهذا- إخوتنا المستمعين- نأتي علي ختام حلقتنا لهذا الاسبوع من ((ذخائر العبر))، علي أمل أن يجمعنا اللقاء بكم مع ذخائر أخري من بطون أسفار التراث الفارسي، نستودعكم الله العلي القدير، وإلي الملتقي.