وكالة تسنيم الدّولية للأنباء: جاء الاختبار مفاجئًا لترامب في هذا الوقت الحساس من عمر المنطقة وتمثّل بإسقاط حرس الثورة الاسلامية لطائرة تجسس أمريكية هي الأكثر تطورا وربّما الأغلى ثمنا في المياه الإقليمية الإيرانية. تباعا نرى أن الرئيس الأمريكي قد اختار مبدئيا قبول الصّفعة الايرانيّة لإدارته بوصفها النتيجة الأقل سوءا على مشواره كرئيس حالي للولايات المتحدة ومرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. بيد أن هذه النتيجة قد تتجه نحو الأسوء إذا لم يقم ترامب بسدّ أفواه بعض مستشاريه المتعطشة للحروب وسفك الدماء والكفّ كذلك عن إطلاق بعض التّغريدات التي لا تؤثر الّا في ارتفاع سعر برميل النفط كما حدث خلال اليومين المنصرمين.
توصيف الواقع في المنطقة يُختصر بأنها تتجه الى مزيد من التّعقيد وليس التّصعيد، بين موقف إيراني راسخ وصارم بأن لا حرب ولا مفاوضات في ظل هذه الإدارة الأمريكية التي تواصل فرض الحظر الاقتصادي على إيران، وبين موقف أمريكي يواصل الحرب الاقتصادية ويلتمس المفاوضات من طهران لقطف ثمار ونتائج الحصار الاقتصادي على إيران.
يقتضي التّوضيح هُنا أن قرار عدم المواجهة العسكرية التي تنتهجها إيران لا يشمل قبولها باستباحة سيادتها البحرية أو الجوية أو البرية أو المساس باستقلالها السياسي وحريّة قرارها السّيادي وفي هذا السّياق نرى الحرص الايراني بعدم استهداف طائرة التّجسس التي كانت قد اخترقت مجالها الجوي وتقل 35 عسكريًّا أمريكيًّا (التي بطبيعة الحال استجابت للتحذيرات الايرانية بضرورة ترك مجالها الجوي) فيما استهدفت الطائرة بدون طيّار المُرافقة لها.
يجدر الالتفات أيضا إلى أن أمريكا لا تريد من المفاوضات إلّا اسمها وتسعى عمليًّا إلى سلب إيران برنامجها الدّفاعي ونفوذها في المنطقة بدون إعطائها أي امتيازات اقتصادية وهذا ما تظهره المفاوضات الأمريكية مع كوريا الشمالية حيث تريد الولايات المتحدة سلب الكوريين برنامجهم النووي فيما تستمر بسياسة فرض الحظر والعقوبات الاقتصادية دون أي أفق لرفعها، وبالتّالي إن المفاوضات التي يحلم بها السّيّد ترامب ما هي إلّا فقّاعة إعلامية تدخل في برنامجه التّسويقي لحملته الانتخابية المقبلة.
المُضحك في أحداث الأيام الماضية كانت التّغريدة التي أطلقها سيد البيت الأبيض بأنّه أوقف تنفيذ ضربات أمريكية ضد مواقع إيرانيّة بسبب تقديرات تشير إلى أن حوالي 150 شخصًا سيُقتلون في هذه العمليات، فهل فعلًا السّبب الذي اتخذه ترامب يعود الى هذا الأمر بينما نرى أنّه لم يعلّق حتى على حادثة إسقاط الجيش اليمني واللجان الشّعبية اليمنية لطائرة درون أمريكية فوق اليمن منذ أسبوعين؟! الأكيد في هذا الأمر أن ترامب لا يعير أهميّة للضحايا التي تسقط جرّاء العمليات التي تنفذها أمريكا أو أدواتها في المنطقة والدليل الأكبر هو عدد الشّهداء اليمنيين الذين يسقطون يوميًّا بصواريخ أمريكية وغربيّة الصّنع إمّا بأيدٍ سعوديّة مجرمة بالوكالة أو بإيد أمريكية خبيثة بشكل مباشر.
إذا حسابات ترامب لا ترتبط بضحايا عمليّاته العسكريّة من المدنيين أو العسكريين، إنّما حساباته في مكان آخر.
فيما يلي نستعرض التداعيات المحتملة للعملية العسكريّة الأمريكية ردًّا على إسقاط طائرة الاستطلاع الامريكية ضمن 3 فئات : نتائج مباشرة، نتائج إقليمية وخصوصا فيما يتعلّق بصفقة القرن، نتائج على صعيد الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ لنرسم تباعا المشهد القاتم الذي كان سينتظر ترامب لا كما بيّنه في بضع كلمات على موقع تويتر للتّواصل الاجتماعي.
يُمكن تبيان النّتائج المباشرة للعملية العسكرية الأمريكية الملغاة على الشّكل التّالي: أول هذه الخسائر قد تظهر مباشرة بشكل مادي وبشري بين صفوف القوات الامريكية المُهاجمة ولا نتحدث عن خسائر مقبولة في هذه السياق بل عن خسائر فادحة ليس أقلها حياة الكثير الكثير من الجنود الأمريكيين بالإضافة الى برامج أسلحة قد تبقى في مخازن شركات التسليح الأمريكية ومن ضمنها البرنامج الذي كلّف ميزانيّة الشّعب الامريكي أكثر من 10 مليارات دولار عدا عن مئات ملايين الدولارات لسعر الوحدة المقاتلة من الطائرة من دون طيّار الأمريكية RQ4 – GLOBAL HAWK)).
ثاني الخسائر وعلى فرض نجاح الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها قصيرة الأمد من الضربات المحدودة على إيران ستكون على سعر برميل النّفط بحيث ستتأثر إمدادات النفط عبر شريان مضيق هرمز وما يتبع ذلك من أثار على الاقتصاد العالمي.
ثالث النتائج المباشرة ستكون كارثية فيما لو استطاعت إيران إفشال الهجوم الأمريكي بحيث ستسقط هيبة الجيش الأمريكي وقواعده في المنطقة والتي لطالما ابتز بها ترامب دول الخليج الفارسي من أجل نهب ثرواتهم، هذا الأمر بلا شك سيؤثر أيضا على الاقتصاد الأمريكي الذي سيفقد الضمانات التي كانت متوفرة لإمدادت الطّاقة في العالم عبر الوجود الأمريكي في الدول الخليجية.
النّتائج الإقليمية للضّربة الأمريكية الملغاة تأخذ منحيين:
سيناريو المنحى الأوّل يتمثّل بفشل الضّربة الأمريكية وبالتّالي سقوط الولايات المتحدة من موقع الرّاعي لبعض أنظمة دول المنطقة، لذا فإن أي انسحاب للقوات الأمريكية نتيجة لكلفة تواجدها في مقابل عدم استطاعة تأمين هذه الأنظمة سيدفع هذه الأنظمة إلى البحث عن حل بين دول المنطقة لحماية أمنها أو ستتعرض لثورات شعبية تطيح بالعائلات والقبائل الحاكمة بعد طول استنزاف من قبل راعي البقر الأمريكي وفي الحالتين ستخسر أمريكا عقود التسليح العسكرية التي تنعش ميزانيتها باستمرار.
السّيناريو الثّاني سيؤثّر على الشّق الاقتصادي لصفقة القرن المزمع عقده في البحرين، فلا شك أن أي عملية عسكرية أمريكية ناجحة أو فاشلة سيؤثر سلبًا تجاه إلغاء أو تأجيل إعلان هذا الشّق وفي الحالتين لن تكون "اسرائيل" ومجموعات الضّغط الصّهيونية المتواجدة في الولايات المتحدة راضيتان عن مسار الأحداث وهما اللتان تعرّضتا لانتكاسة أولى تمثّلت بتأخير إعلان الشّق السياسي لصفقة القرن إلى ما بعد انتخابات الكنيست الصّهيوني وتشكيل الحكومة الاسرائيلية.
الشّق الثالث من نتائج العملية العسكرية الأمريكية الملغاة كانت ستلقي بظلالها على الانتخابات الرئاسيّة الأمريكية. فترامب التّاجر لا يفقه فن السياسة ويتعامل مع السياسة على أنها صفقات تجارية بين شركات ويتغافل عن حقيقة أن أي ضربات عسكرية يجب أن تُترجم سياسيًّا بالدرجة الأولى وثم اقتصاديًّا وليس العكس.
لو كان ترامب متأكدا من إيجابيّة نتائج الضربة العسكرية لأقدم عليها لكن قدرات الرّدع الايرانية التي ظهرت في إسقاط الطائرة الأمريكية المتطورة قد جعلته يعيد حساباته حول مستوى الرّدع الايراني والتقييم الأمريكي لها أولا، وتأثير ذلك على حملته الرئاسيّة ثانيا.
لا شكّ أيضا أن ترامب لا يريد أن يفقد بعض البريق الذي حققه للاقتصاد الأمريكي خلال العامين الماضيين على الرّغم من تراكم الديون بشكل غير مسبوق على الولايات المتحدة وتزلزل عملة الدولار عن موقعها الريادي في الاقتصاد العالمي منذ مطلع 2019، لذا فإن أي انتكاسة للاقتصاد الأمريكي جرّاء ضربة أمريكيّة غير محسوبة قد تطيح بإنجازات ترامب الرئاسية، يُضاف إلى ذلك فشله حتى اليوم في الملف الكوري الشّمالي الأمر الذي سيجعل احتمالية إعادة انتخابه ضئيلة.
بالمحصلة تبدو يد ترامب خالية إلّا من أوراق فرض الحظر، وتدرّج لهجته من التهديد الى إلتماس المفاوضات تدل على حالته النفسية المضطربة؛ فهو يعتبر ما يقوم به صفقة تجارية يريد تحقيق المكاسب منها لكنه لا يستطيع. بينما النفس الطويل للديبلوماسي الايراني وخبرته في إحاكه السياسة بعيدة المدى جعلته يحتفظ بأوراقه قويّةً ويُسدد بها الضربات الواحدة تلو الأخرى للإدارة الأمريكية.
وفيما سيخرج الاقتصاد الايراني العام المقبل من وطأة الحظر الاقتصادي الأمريكي حسب تقرير للبانك الدولي وحفاظ الجمهورية الاسلامية على نفوذها قويًّا في المنطقة لا يبدو من العدل أن تجلس إيران الى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة دون أن ترجع الأخيرة الى الاتفاق النووي بالحد الأدنى وتحميلها ثمن أخطائها المتوالية في المنطقة.