الحمد لله باعث الأنبياء، فكانوا بين الله وعباده سفراء، وأشرف صلواته علي خاتمهم وسيّدهم المصطفي محمّد سيّد الرسل الأمناء، وعلي آله الأئمة الهداة سادة الأوصياء.
أهلاً بكم في هذا اللقاء الطيّب معكم، ونحن نحوم حول خلفاء الله، لنري من خلالهم هداية الله، والنعمة العظمي لله، وهو القائل تبارك وتعالي: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (التوبة، ۳۳).
وواضح في الآية المباركة اقتران الهداية الإلهية برسول الله (صلّي الله عليه وآله)، ليهدي بأمره، ودين الحقّ هو الإسلام الذي أراد الباري سبحانه إظهاره ونشره علي كلّ الأديان، بعد أن وقع فيها ما وقع من التحريف والتغيير، وبعد أن ارتقت البشريّة الي مرحلة تحتاج الي دين أكمل، يناسب حياتها وحياة جميع الأجيال القادمة. فكانت بعثة المصطفي الأكرم (صلي الله عليه وآله وسلّم) رحمة كبري لفـّت العالم الإنساني، حيث جاءت خاتمةً للبعثات الإلهية السابقة، تكملها بعد أن تنزّهها، وتزكي أهلها، وتضع الناس علي المحبّة البيضاء، وقد قال تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» (الجمعة، ۲).
وتلك منـّةٌ منّ الله تعالي بها فخاطب من يعيها بقوله عزّ من قائل: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» (آل عمران، ۱٦٤).
وهكذا تتكامل جهود خلفاء الله، من الأنبياء والرسل والأوصياء، لتستنير العقول، وتتهذّب النفوس، وتكتمل الحجج البالغة لله تعالي علي خلقه وقد كان من كلام للإمام الكاظم (عليه السلام) قوله: (ما بعث الله أنبياءه ورسله إلي عباده إلّا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابةً أحسنهم معرفة لله، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة).
*******
ونجد في سيرة سادات خلفاء الله عزوجل النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الطاهرين الكثير من اسمى صور الاهتمام بتهذيب النفس وتزكيتهم وتقديم هذا الامر على غيره لأنه المحور الاساس في اداء مهمتهم الربانية في نقل العباد الى رحاب الانوار الالهية، لمحة عن هذا الاهتمام نستمع اليها من ضيف برنامج خلفاء الله في هذه الحلقة سماحة الشيخ محمود آل سيف الباحث الاسلامي من السعودية:
الشيخ محمود آل سيف: تهذيب النفس وتزكيتهم من اهم الغايات التي بعثت الرسالات من اجلها وهي هدف النبي للاولياء والائمة والمصلحين، الله سبحانه تعالى يقول: «الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» فتزكية النفس غاية لذاتها لأنها عنوان للفلاح وطريق للوصول للعبودية كما انها غاية لغيرها حيث تهدف الى مجتمع خال من الامراض يتم فيه الوصول الى الامن الاستقرار ولهذا النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سعى جاهداً لأن يكون هو مثلاً اولاً للنفس المزكاة والنفس المهذبة فقال القرآن عنه: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» والنبي الاكرم يوصفه القرآن الكريم في سعيه الدئوب لتهذيب النفوس لأنه مثالاً للرحمة ومثالاً للتواضع ومثالاً لأحترام عقول الناس، يقول الله تبارك وتعالى عنه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ» فهذه الصفات التي جسدها النبي الاكرم في حياته وفي وسط المسلمين جعلت منه شاخصاً للنفس المزكاة وايضاً معلماً من معالم التزكية والتهذيب.
امير المؤمنين (سلام الله عليه) فيما روي عنه انه كان مثالاً للتواضع فقد قالوا عنه: (انه كان فينا كأحدنا، يمشي في اسواق الكوفة في زمان خلافته وينادي خلو سبيل المؤمن المجاهد في سبيل الله) ويعني بذلك الرجل الذي يسعى الى كسبه وكد عيشه ويقول عنه ضرار بن الازور (كان فينا كأحدنا، يجيبنا اذا سألناه وينبأنا اذا استفتيناه ونحن والله مع تقريبه ايانا وقربه منا لانكاد نكلمه هيبة له، يعظم اهل الدين ويقرب المساكين) هاتان الفئتان من الناس اهل الدين والمساكين كانا يجدان في امير المؤمنين (عليه السلام) كل معاني الاحترام والتقدير.
الحسن بن علي كمثال على ذلك، حليم اهل البيت وكريمهم، حليم يعني يعفو عمن اساء اليه وتجرأ عليه.
الامام الصادق (سلام الله عليه) يقول: (اختبروا اخوانكم بخصلتين فأن كانتا فيهم والا فأعزب ثم اعزب، محافظة على الصلوات في مواقيتها والبر في الاخوان في العسر واليسر) هذا التعليم وهذا التهذيب وهذا المثل هو الذي ينمي في النفوس الصلاح وينمي فيها الاخلاص وينمي فيها التقوى.
نجد في سيرة اهل البيت (سلام الله عليهم) كل الامثلة التي تحدث عن السعي الدئوب للاصلاح بين المتخاصمين فالمفضل بن عمر يقول: (امرني الصادق (عليه السلام) ان اصلح بين المؤمنين ان اختلفوا فكنت ان وجدت اثنين من الناس يختلفان في امر) - ونعلم اضرار النزاع والتنازع واثره على النفوس حيث يؤدي الى التعدي ويؤدي الى الظلم ويؤدي الى الطغيان - فيقول: (خرجت من المسجد واذا بأبي حنيفة ساق الحاج له منازعة مع ختنة فأخذتهما الى البيت واصلحت بينهما بأموال عندي فشكراً لي ذلك قلت لهما انه ليس مني وانما هو من سيدي ومولاي ابي عبد الله جعفر بن محمد امرني ان اصلح بين المؤمنين بأمواله)، هذا المثل وهذا التعليم من قبلهم (عليهم السلام) جعل من تعاليم الاسلام ليست نظريات مجردة تدعو الى التزكية وتدعو الى تهذيب النفس وانما جعلها واقعاً في حياة المؤمنين وواقعاً في حياة المسلمين.
نسأل الله تبارك وتعالى ان يوفقنا للسير على هديهم والاخذ من تعاليمهم انه سميع الدعاء.
*******
وكان من فضائل خلفاء الله عزّوجلّ، ممّا يعدّ من الرحمة الكبري علي الناس، كما تعدّ إحدي علل النبوّات والرسالات وفلسفاتها، هو التزكية التي تعني النموّ الصالح الذي يلازم الخير والبركة، فتزكية النبيّ الناس هي تنميته لهم نماءً صالحاً، بتعويدهم الأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، فيكملون بذلك ويتكاملون في إنسانيّتهم، فتستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم، حينما يعيشون سعداء، ويتوفـّون سعداء.
وفي ظلّ الآية المباركة: «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، قال بعض المفسّرين: تعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته، وتفسير ما أشكل من ذلك. ويقابل هذا التعليم الحكمة وهي المعارف الحقيقية التي يتضمّنها القرآن الكريم. والتعبير عن القرآن تارةً بـ (الآيات)، وتارةً بـ (الكتاب)، للدّلالة علي أنّه بكلّ من هذه العناوين نعمة يمتنّ الله تعالي بها علي عباده، وهو القائل جلّ من قائل: «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (المائدة، ۱٥ و۱٦).
أجل، وقد كانت نعم الله عزّوجلّ تتري علي العباد، وسبيلها من خلال خلفاء الله جلّ وعلا، تلا أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) يوماً قوله تعالي: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ»، ثمّ قال (عليه السلام): إنّ الله سبحانه وتعالي جعل الذّكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزّت آلاؤه - في البرهنة بعد البرهنة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأبصار والأسماع والأفئدة، يذكـّرون بأيّام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقة، وبشّروه بالنّجاة ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق، وحذّروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات، وأدلّة تلك الشّبهات.
إنّ الله تعالي هو محض العدل، وهو جلّ وعلا يحبّ العدل ويأمر به، ويرتضيه لعباده ويدعوهم إليه، بل ذلك من إرادته التشريعية، ومن دواعي رسالاته الدينيّة التي أرسل بها رسله وقد قال في محكم تنزيله الحكيم: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد، ۲٥)، قيل: من خلال هذه الآية الشريفة يتبيّن معني تشريع الدّين بإرسال الرسل، وإنزال الكتاب والميزان، فإنّ الغرض من ذلك هو قيام الناس بالقسط، وتلك غاية متعلّقة بإنزال الميزان، فيكون المعني: وأنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم، فلا يخسروا باختلال الأوزان والنّسب بين الأشياء، فقوام حياة الإنسان بالمجتمع، وقوام المجتمع بالمعاملات الدائرة بين الناس، وقوام المعاملات في الأوزان، وذلك من شأن الميزان.
وقد يراد بالميزان الدّين الذي توزن به عقائد الناس وأعمالهم، وهو الذي به قوام حياتهم السعيدة مجتمعين ومنفردين، وقيل: المراد بالميزان العدل، وقيل: العقل وقيل: الإمام، فهو الميزان بعد النبي إذ هو عالم بالتنزيل منافح عن التأويل، محيي سنن الرسول بعد أن استحفظه الله علمه وفيه يقول الإمام الصادق (عليه السلام) يعرّف بعض أحواله وصفاته: (إسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تحيّر أهل الجهل، وتحبير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع...).
*******