الحمد لله ذي العزّ والجلال، وأزكي صلواته علي الحبيب المصطفي وآله أولي العلي والكمال.
بعد رحيل النبيّ، تظهر في حياة الأمّة ضرورتان:
الأولي: - ضرورة الخلافة - الوارثة للشريعة والنبوّة ومعارف الدين، فلا بدّ من خليفة وصيّ مستخلف مستحفظ يلي الأمر بعد النبيّ الراحل، أو الرسول الراحل.
أمّا الضرورة الثانية: فهي ضرورة ظهور الملكات النبويّة السابقة في الخليفة، والمواهب الخاصّة التي تنهض بالدّين من جديد: ببيان الكتاب وتحقيق السّنّة، وإقامة العدل، وإصلاح الأمور، وتدبير شؤون الناس ومصالحهم، ودفع الأضرار عنهم. وهذا يعني أن لا بدّ من علم وتقي، وحكمة وحزم، وأخلاق وعقائد، كلّ علي مستوي الكمال والعصمة والتسديد الإلهيّ، يكون ذلك كلّه في خليفة النبيّ، كي تعتقد الأمّة به فتتّبعه وتأخذ عنه، وكي يحلّ معضلاتها فقدها النبيّ، من خلال تفسيره لكتاب الله، وإحيائه لسنّة رسول الله، وردّه الشّبهات، وإجابته علي المسألات، وحلّه لما يستجدّ من المشكلات، إلي غير ذلك.
وهذا بالضرورة يتطلّب أمرين:
الأوّل: المواهب الإلهيّة في الخليفة.
والثاني: العصمة الكاملة الحافظة من الزلل والخطأ والغفلة والسهو والنسيان. لتنعقد علي الخليفة ثقة الناس، وتستقرّ فيهم الطمأنينة به، فيتـّبع. كما كان النبيّ من قبل يتـّبع.
وهنا يلزمنا الحديث حول خلفاء الله أن نقف عند محطّتين مهمّتين:
الأولي: تعريف الإمام.
والثانية: ذكر خصائص الإمام وخصاله وصفاته.
قبل كلّ شيء لا بدّ أن نعيد إلي أذهاننا ما جاء في سنّة الأنبياء السابقين (عليهم السلام)، أن كان لكلّ منهم وصيّ، وذلك أمر صار مسلّما في تاريخ الأديان، فلم يمضن نبيّ ولا رسول ولم يخلّف وصيّاً خليفةً له ومن هنا روي الطبريّ بإسناده إلي سلمان الفارسي أنّه قال:
قلت لرسول الله (صلي الله عليه وآله): يا رسول الله، إنّه لم يكن نبيّ إلّا وله وصيّ، فمن وصيّك؟
فأجابه (صلي الله عليه وآله): وصييّ وخليفتي في أهلي، وخير من أترك من بعدي، مؤديّ ديني، ومنجز عداتي، عليّ بن أبي طالب.
وروي أحمد بن حنبل يرفعه إلي أنس بن مالك قال:
قلنا لسلمان: سل النبيّ من وصيّه؟
فقال له سلمان: يا رسول الله، من وصيّك؟
قال: يا سلمان، من كان وصيّ موسي؟
قال سلمان: يوشع بن نون.
قال (صلي الله عليه وآله): وصييّ ووارثي، يقضي ديني وينجز موعدي، عليّ بن أبي طالب.
وبقي هذا التساؤل يتكرر علي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، نقرأه في روايات كثيرة، عامّة وخاصّة، فمثال ذلك ما أورده عالم المذهب الحنفي الشيخ سليمان القندوزيّ في (ينابيع المودّة) - نقلاً عن الحموينيّ الجوينيّ الشافعيّ المذهب في كتابه (فرائد السمطين) - أنّ نعثل اليهوديّ سأل رسول الله أسئلة كثيرة حتي وقف عند هذا السؤال قائلاً: يا محمّد، أخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبيّ، إلّا وله وصيّ، وإنّ نبيّنا موسي بن عمران وصيّه يوشع بن نون.
فأجابه النبيّ (صلي الله عليه وآله) في حديث مفصّل معدّداً له أوصياءه الاثني عشر، مبتدئاً بقوله: (إنّ وصييّ عليّ بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين، ثم ذكر (صلي الله عليه وآله) أسماءهم الشريفة إلي الحجّة المهديّ عليه و(عليهم السلام)، استجابةً لطلب نعثل).
كذا في (كفاية الطالب) يروي الگنجي الشافعي المذهب أنّ جندل بن جنادة بن جبير اليهودي لمّا اقترب من الإسلام علي أثر جندل بن جنادة بن جبير اليهوديّ لمّا اقترب من الإسلام علي أثر إجابات النبيّ (صلي الله عليه وآله) علي أسئلته، عاد جندل يقول: أخبرني يا رسول الله عن أوصيائك من بعدك لأتمسّك بهم. فعدّهم وعدّدهم له رسول الله بالأسماء والألقاب، استجابة لطلبه.
وهنا يتبيّن أمران مهمّان، هما أنّ لكلّ نبيّ وصيّاً، وأنّ الأوصياء معيّنون من قبل الله تعالي وبتبليغ النبيّ الراحل وتعريفه للأمّة، ومن هنا كان أمر الخلافة الإلهية الثانية بعد النبوّات والرسالات أمراً مسلّماً لا شك فيه ولا ريب، تعاهدته الأديان أصلاً من أصولها، وضرورةً في حياة أممها.
*******
لا يخفى عليكم ان النبي والوصي كلاهما من خلفاء الله في ارضه ولكن ثمة فرق بينهما فيما يرتبط بمهام الخلافة الالهية وهذا ما يحدثنا عنه ضيف هذه الحلقة من برنامج خلفاء الله سماحة السيد جعفر فضل الله الاستاذ في الحوزة العلمية من لبنان بيروت:
السيد جعفر فضل الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الانبياء والمرسلين.
كل نبي من انبياء الله ارسله الله سبحانه وتعالى ليقوم بعدة مهام اساسية، المهمة الاولى هي تبليغ المعارف الالهية والشرعية للناس وبيانها لهم بشكل واضح وجلي والمهمة الثانية هي مهمة التزكية الروحية التي تقع على عاتق الانبياء ان يقوموا بتأكيدها في حياة الناس والمهمة الثالثة هي مهمة تعريف الناس وتدريب الناس على معرفة مواقع الحكمة في حياتهم لأنه ليس كافياً ان يعرف الناس الدين او يعرفوا ما يتعلق بقضايا الدين مما يريد الله سبحانه وتعالى ان يبينه بل المطلوب ايضاً ان يعرفوا كيف يحركوا هذا الدين في الواقع وفي الحياة.
هذه المهام هي ما عبرعنها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عندما تحدث للمؤمنين قائلاً تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» ومن الواضح ايضاً ان النبي لا يتيسر له بحسب حياته في قلب مجتمعه لأن للنبي عمراً محدوداً حسب سني العمر، لا يتيسر له خلال هذه الفترة الزمنية ان يحيط بكل الجوانب ليقوم بدوره في تعزيز حضور الدين والاسلام لدى المجتمع وخصوصاً ان مراحل الدعوة الاولى قد يكون فيها الكثير من الصراعات والتحديات التي تحتاج الى ان يدخل المجتمع اليها فيصرف عن كثير من الامور التي تحتاج الى العقل الهادئ والاسلوب اللين والمتزن وما الى ذلك ولذلك تمس الحاجة دائماً الى من يخلف النبي لكي يقوم عملياً بهذه المهام، مهام النبوة في تجذير الدين والاسلام في المجتمع وهذا يحتاج الى ان يتحلى الخليفة الذي سيخلف واذا اردنا ان نتحدث عن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) فنقول ان هذا الخليفة الذي يخلف النبي هو ليس كمن يخلف مديراً في مؤسسة او قائداً او حاكماً لدولة قائماً على سلطة معينة بل لابد ان يخلفه في المهام التي تقع على عاتقه وهي التي اشرنا اليها، ان يعلم الناس الكتاب والحكمة وان يزكيهم وبالتالي يحتاج الى ان يمتلك هذه المؤهلات وهذه المواصفات لكي يتابع هذه المسيرة عملياً في حياة الناس فيكون دور الخليفة هو دور اكمال مهام النبوة من الناحية العملية وان كانت النبوة تقتصر على النبي لأن الوحي ينقطع بموت النبي فالوصي هو الذي يقوم بمهام النبي بأعتبار ان النبي كان داعياً الى الله وكان مبشراً وكان نذيراً وكان ينطلق ليؤكد حضور الاسلام في نفسه ليجسد القدوة للمسلمين وان يؤكد حضور الاسلام للمسلمين من خلال كونه شاهداً عليهم وبالتالي هذا الدور هو دور الخليفة من بعده وهو دور كل داعية يريد ان يجعل من نفسه شخصاً يقوم بمهمة الدعوة للاسلام وربما تشير الى هذه النقطة ما تحدث به رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) عندما قال لعلي (عليه السلام): "اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي" فكما كان هارون وزيراً وكما كان هارون نصيراً وكما كان هارون مؤازراً لنبي الله موسى (عليه السلام) فأن الوصي من بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) هو الامام علي (عليه السلام) امير المؤمنين ليقوموا بنفس الدور وكان هو المؤهل لأن يكمل مسيرة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في تأكيد حضور الاسلام في حياة الناس ولذلك نجد كثيراً من الاحاديث التي انطلقت ممن تقدموه في مسألة الخلافة فيروى عن عمر بن الخطاب انه قال لو لا علي لهلك عمر وانه اشار الى علي وقال لو وليها علي لحملهم على المحجة البيضاء، مما يؤكد هذا الدور الذي اطلع به الامام علي (عليه السلام) في داخل الخلافة عندما استلمها فعلياً وفي خارج الخلافة عندما كان ينطلق ليكون همه الاسلام وهمه المسلمين في عزتهم، في كرامتهم، في وحدتهم، في ابقاء نصاعة كل المفاهيم والقيم التي اتى بها الاسلام ليستمر الاسلام في حياة الجيل الذي خلف رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ليحمله هذا الجيل الى الجيل الذي بعده وهكذا حتى يصل الينا لنوصله الى الاجيال من بعدنا بأذن الله تعالى.
*******
نتابع تقديم البرنامج بالإشارة الي أن النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) قد إهتم بتعريف المسلمين بهوية خلفاء الله الحقيقيين الذين يتحملون مسؤوليته حفظ شريعته من بعده (صلي الله عليه وآله)، وصدرت في ذلك أحاديث شريفة كثيرة نقلتها المصادر المعتبرة.
من ظريف ما نقلته كتب علماء السنّة في شأن الخلافة والوصاية بعد النبيّ، باعتبارهما ضرورةً عقائديّة ملحّة ف ما جاء في روايتين مسندتين رواهما ابن المغازليّ الشافعيّ في كتابه (مناقب عليّ بن أبي طالب): الأولي ينتهي سندها إلي أنس بن مالك حيث قال: أنقضّ كوكب علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله): (انظروا هذا الكوكب، فمن انقضّ في داره فهو الخليفة من بعدي).
قال أنس: فنظروا، فإذا هو قد انقضّ في منزل عليّ، فأنزل الله تعالي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى». وقد أخرج هذه الرواية أيضاً: الذهبيّ في (ميزان الاعتدال ج: ۲، ص: ٤٥ / الرقم ۲۷٥٦)، كذا أورده ابن حجر العسقلانيّ في (لسان الميزان ج: ۲، ص: ٤٤۹) ولكن عن طريق ابن عبّاس بعين ما رواه ابن المغازليّ الشافعيّ في (المناقب) حيث قال هذا الصحابيّ:
كنت جالساً مع فتية من بني هاشم عند النبيّ (صلي الله عليه وآله) إذ انقضّ كوكب، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله): من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي فقام فتية من بني هاشم، فنظروا. فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل عليّ.
قالوا (أي المنافقين): يا رسول الله، قد غويت في حبّ عليّ!
قال ابن عبّاس: فأنزل الله تعالي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى».
وقد أخرج هذه الرواية أيضاً: الگنجيّ الشافعيّ في (كفاية الطالب)، وابن كثير في (تاريخ مدينة دمشق - لدي ترجمته لحياة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)).
وقبل وداعكم نقرأ عليكم هذه الرواية ينقلها أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي في الجزء الخامس من مسنده، بسند يرفعه إلي الصحابي زيد بن ثابت أنّه قال:
قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): (إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله، حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لا يفترقان حتي يردا عليّ الحوض).
*******