الحمدُ للهِ كما هُوَ أهلُه، وكما ينبغي لعَظمِ شأنِه وعزِّجلالِه، وأفضلُ صَلَواتِه علي حبيبِه محمّدٍ وعلي أهلِ بيتِه وآلِه.
العقلُ والضمير، لا يرتضيانِ أن يتفوّقَ الأقلّ، أو يؤخَّرَ الأفضَل، أو يقدّمَ الجاهلُ علي العالِم، بل أن يقدَّمَ العالِمُ علَي الأعلم، فضلاً عن أن تُوكلَ أُمورُ الحرب إلي جبان، أو شؤون الرعيّة إلي حيران، أو قضايا الحُكم والقضاء إلي غضبان، هذا فضلاً عن قضايا الخلافة الإلهيّة الخطيرة التي هي من اختيارات الله تبارك وتعالي، عيّنَها في خاصّة أوليائِه، بعد أن خَصَّهم بعناياتِه، وعيّنَهم لمهمّاتِه. ومن هنا كتب علماءُ العقيدة في هذا المعني يقولون:
إنّ الإمام الخليفة كالنبيّ المُستخلِف، من جهةِ وجوبِ أن يكونَ أفضل الناس في صفات الكمال، منَ: الكرم والعفّة والصِّدق والعقل، والتدبيرِوالحكمة وغيرِ ذلك. وهو يتلقّي المعارفَ والأحكامَ الإلهيّةَ وجميعَ العلوم عن طريق النبيِّ الراحل أو الإمامِ الذي قَبلَه، أمّا إذا استَجدَّ أمرٌ فلابدَّ أن يعلمه مِن طريق الإلهام بالقوّةِ القُدسيّة التي أودَعَها اللهُ تعالي، فلو شاء أن يعلَم شيئاً عَلِمَه علي وجهه الحقيقيّ، لا ينتابَه خطأٌ أو سهوٌ أوِ اشتباهٌ أو غفلةٌ أو نسيان. بل لا يحتاج في أموره إلي البراهين العقليّة ولا التلقيناتِ الدَّرسيّة. نعم، صحيحٌ أنّ الأئمّة الأوصياء بشرٌ مثلُنا، لكنّهم عبادٌ مكرَمون، اختصَّهُمُ اللهُ سبحانه بكراماتِه، وحَباهُم بولايته، حتي أصبحوا في أعلي درجات الكمال في البشر من جهة العلم والتقوي والشَّجاعة، وجميعِ الأخلاق الفاصلة والخصالِ الحميدة، لا يدانيهم أحدٌ فيما اختُصّوا به، وبهذا استحقـّوا أن يكونوا أئمّةً وهُداةً ومرجعاً للأمّة بعد رحيل النبيّ، في كلّ ما يعود للناس من أحكامٍ وشرائع، وعلومٍ ومفاهيم، وآدابٍ وسُنن، وما يرجع للدِّين من بيان لكتاب الله العزيز تفسيراً وتأويلاً. ومن هنا روي الطبرانيّ في مُعجمه وكذا عشراتٌ غيره من علماء أهلِ السنّة، أنّ رسول الله (صلّي اللهُ عليهِ وآلِه) قال: (إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتُم به لن تَضِلّوا: كتابَ اللهِ وعترتي فلا تقدموها فتهلكوا، ولا تَقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تُعلّموهم فإنّهم أعلمُ منكم).
أوردَ هذا الحديثَ الشريف أيضاً ابنُ حَجَرِ المكيُّ الشافعي في كتابه (الصواعق المحرقة - باب وصيّةِ النبيِّ بأهلِ بيتِه) ثمّ قال: وفي قوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (فلا تَقدِموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تُعلّموهم فإنّهم أعلمُ منكم) دليلٌ علي أنّ مَن تأهلّ منهم للمراتب العليّة، والوظائفِ الدينيّة، كان مقدّماً علي غيره.
ثمة خصوصية مهمة في خلفاء الصادقين يعرفنا بها حديث الثقلين المتواتر وهي كونهم لا يفترقون عن القرآن الكريم أبداً فهم مبينوا حقائقه الأصيلة للناس ومجسدوها بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم (عليهم السلام):
*******
ثمة خصوصية مهمة في خلفاء الله الصادقين يعرفنا بها حديث الثقلين المتواتر وهي كونهم لا يفترقون عن القرآن الكريم ابداً وهم مبينوا حقائقه الاصيلة للناس ومجسدوها بأقوالهم وافعالهم وسيرتهم (عليهم السلام)، عن اهم صفات خلفاء الله الحقيقيين التي يعرفنا بها حديث الثقلين يحدثنا ضيف الحلقة الثامنة والثلاثين من برنامج خلفاء الله سماحة الشيخ شاكر الفاردان الباحث الاسلامي من البحرين:
الشيخ شاكر الفاردان: طبيعي الخلفاء الذين ينظر اليهم الحديث، حديث الثقلين ناظر الى الشخصيات القدوة التي تمثل القدوة في البشرية والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الائمة «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» يعني لأنهم يتمتعون بهاتين الخصلتين، الخصلة الاولى هي الصبر وهي ما يعبر عنها بالحكمة العملية يعني يتمتعون بحكمة عملية في اعلى مراتبها والصبر من الايمان كالرأس من الجسد يعني يمتلكون زمام الفضائل وزمام السلوكيات والاخلاقيات العالية هذه الخصلة الاولى والخصلة الثانية «لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» بلغوا مرتبة اليقين يعني لديهم من العلم الذي يلازمه العصمة، لديهم من العلم اليقيني الذي لا يخالطه ذرة من الشك، هذا اليقين الذي يمثل الحكمة العلمية والنظرية في جانبهم وهذا الصبر الذي يمثل الحكمة العملية في الجانب الآخر هذه هي الصفات المطلوبة في الخليفة التي ينظر اليها حديث الثقلين هذا الخليفة اذا تمتع بهاتين الخصلتين في اعلى مراتبها هو الخليفة الذي يمثل القدوة وهو الذي يمثل الاسوة وهو الذي تكون بيده ازمة الامور وهو الذي تدور حوله رحى الكون، هذا الحديث حديث الثقلين الذي هو تركة النبي (صلى الله عليه وآله) من بعده لا يمكن ان تكون تركة عادية توصي بخلفاء اي خليفة كان لأنه لا يتناسب ولا ينسجم هذا التصور مع ثقل الحديث، حديث الثقلين، هذا الحديث الذي يمثل حجر الاساس في فكر المسلمين، في مسار حياة المسلمين، في ادارة دفة المسلمين من يومهم الاول وحتى قيام الساعة وهي ترتبط ايضاً بقضية المهدي الموعود المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فلابد ان يكون التركيز من قبل الحديث على اصول اولية تمثل بنى تحتية لصفات رئيسة في الخلفاء والا لو كانت الصفات مجرد صفات عادية كصفت العلم او صفة الشجاعة في اي مراتبها او الكرم او غيرها لا نحتاج الى كثير ان يكون هذا الحديث يحتل الموقع الكبير في الادب الحديثي في روايات المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم وانما يريد ان يشير الى اعلى مراتبهم انه سينيط بهم المسؤولية الثقيلة والكبيرة التي تحتاج الى مواصفات وخصائص تتناسب مع هذه المسؤولية وقطعاً اهم خصوصيتين واهم خصلتين هي خصلة العلم في اعلى مراتبه واليقين وخصلة الصبر في اعلى مراتبه على اعتبار ان للعلم والوعي والبصيرة النافذة والرؤية الصحيحة يستطيع ان يستكشف الامور ولا يمكن ان تلتبس على هذا الخليفة الامور وانما تبقى الصورة الواضحة حاضراً ويستشرف بها المستقبل بصورة قطعية، يقرأ التاريخ بمنابعه الصحيحة وكذلك يمتلك صبراً يتحدا به كل المتاعب والمصاعب التي تعترض طريقه لأن تسلم مثل هذه الخلافة خلافة المسلمين وخلافة المجتمع معنى ذلك ان هناك ركاماً كبيراً من المصاعب والمتاعب التي تقف في طريقه وتقلل من حركته او تضعف من حركته او توقفه في طريقه لكن حينما يمتلك من الصبر في اعلى مراتبه تجده يستوعب مثل هذه المصاعب والمتاعب والمشاكل يهضمها، يوظفها التوظيف السليم من اجل الوصول الى الغاية والهدف وهذا ما نلحظه في خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله) الائمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين بما امتلكوا من علم الذي ناتجه ولازمه هو العصمة وبما امتلكوا من صبر تعجز عنه الجبال، شقوا طريقهم في الحياة، تحدوا كل المصاعب والمتاعب مع ما مر عليهم من المتاعب والبلايا والمحن والفتن الا انها استخدموا كل هذه الامور ووظفوها من اجل خدمة الانسان ومن اجل فتح الطريق الذي يبلغ به غايته والا لا يمكن ان نتصور ان مسألة الخصائص والخصال التي يتمتع بها الخليفة تكون خصالاً عادية مع ثقل المسؤولية ومع ما يترتب على هذه المسؤولية من امور قد تثقل ظهر صاحبها فلابد ان تكون الخصال متناسبة مع هذا الامر.
*******
نمضي معاً في هذه المسألة المهمّة، وهي أنّ من خصائص الإمام الخليفة أن يكونَ هوأفضلَ الناس في كلّ الفضائل: العلميّةِ والعمليّة، العباديّةِ والتقوائيّة، البدنيّة والروحيّة، النسبيّةِ والسببيّة، ليكون القدوةَ الحسنةَ بين الناس، والأَولي بالطاعةِ والأتبّاع.
وهكذا اشتهر في سيرة أميرالمؤمنين (عليه السلام)، حتي دوّنَ ذلك كتبُ المسلمين علي اختلاف مشاربهم ومذاهبهِم، فروي العامّةُ والخاصّة، ومنهم الشيخُ سليمانُ القندوزيّ في (ينابيع المودّة)، والشبلخيُّ الشافعيّ في (نور الأبصار) وغيرُهما، عنِ ابنِ عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآلِه) في عليٍّ (عليه السلام): (إنّه أوّلُكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهدِ الله، وأقومكم بأمرالله، وأعدلُكم في الرعيّة، وأقسَمُكم بالسَّوية، وأعظمُكم عند اللهِ مَزيّة).
قال ابنُ عبّاس: فنزلت الآية: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» (البينة، ۷)، قال: فكان الصحابةُ إذا أقبلَ عليٌّ قالوا: جاء خيرُ البرية.
وفي (تاريخ دمشق) لابن عساكر، و(المناقب) للخوارزميِّ الحنفيّ، و( كفاية الطالب) للگنجيِّ الشافعيّ، و(المناقب) لابن المغازليِّ الشافعيّ وغيرها أنّ عمرابن الخطّاب قال: أشهدُ علي رسول الله (صليّ الله عليه وآله) لَسَمِعتُه وهو يقول: (لو أنّ السماواتِ السَّبع، والأرضينَ السّبع، وُضِعنَ في كفـّةِ ميزان، ووُضِع إيمانُ عليٍّ في كفـّةِ ميزان، لَرجَح إيمانُ عليّ).
وفي عددٍ من مصادر العامّة، قد تبلغ أكثرمن خمسةٍ وعشرين، منها: مسندُ ابن حنبل، وصحيح البخاريّ، وأنساب الأشراف للبلاذريّ، والرياض النضرة للمحبّ الطبريّ، أنّ عمربن الخطّاب قال: عليٌّ أقضانا، وأفرضُ أهل المدينةِ وأقضاها عليّ كذا روي ابنُ حجرفي
(الصواعق المحرقة)، فيما روي الخوارزميُّ في (المناقب) وغيرُه أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قال: إنّ أقضي أُمّتي عليُّ بن أبي طالب، أو قال علي رواية ابن حجر: أقضاكم عليّ.
وفي عموم الأفضليّة، كتب ابنُ حَجَر في (لسان الميزان) أنّ أبا بكرٍ قال: سمعتُ رسول الله (صلّي الله عليه وآله) يقول: (عليٌّ خيرُ من طَلَعت عليه الشمسُ وغَرَبت بعدي).
مع أفضليّة أميرِ المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، ليتحققَ عندَ كلِّ مسلمٍ حقيّةُ إمامتِه وأحقيّتها، فنقرأ في (كفاية الطالب) مثلاً ما رواه الگنجيُّ الشافعيّ أنّ النبيَّ (صليّ الله عليه وآله) قال: (سبّاقُ الأمم ثلاثة، لم يشركوا باللهِ طَرفةَ عين: عليُّ بنُ أبي طالب، وصاحبُ ياسين، ومؤمنُ آلِ فرعون، فَهُمُ الصدّيقون: حبيبُ النجّار مؤمنُ آل ياسين، وحزقيل مؤمنُ آلِ فرعون، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ وهو أفضلُهم). وفي باب العلم، روي الخوارزميُّ في (المناقب)، والگنجيُّ في (كفاية الطالب) وغيرُهما، بسندٍ عن سلمان الفارسيّ عن النبيّ (صليّ الله عليه وآله) أنّه قال: (أعلمُ الأُمّةِ بعدي عليُّ بنُ أبي طالب).
وكتب الجوينيُّ الشافعيّ في فرائد السمطين أنّ ابنَ عبّآس قال: العلمُ ستّةُ أسداس، فَلِعليِّ بنِ أبي طالبٍ من ذلك خمسة أسداس، وللناسِ سُدُسٌ واحد، ولَقَد شاركنا في السُّدُس حتّي لَهوَ أعلمُ به منّا. فيما نُقل في (المناقب) عن الصحابيّ جابر الأنصاريّ أنّ رسول الله (صليّ الله عليه وآله) قال: (أقدم أُمتي سلماً، وأكثرُهم علماً، وأصحُّهم ديناً، وأفضلُهم يقيناً، وأكملُهم حِلماً، وأسمَحَهُم كفـّاً، وأشجعُهم قلباً، عليّ، وهو الإمامُ علي أمتـّي).
روي ذلك أيضاً: الشيخُ القُندوزيّ الحنفيُّ المذهب في (ينابيع المودّة لذوي القربي). وهكذا اتـّفق الإجماعُ علي أفضليّة أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً خليفةً لرسول الله (صلّي الله عليه وآله)، لِعظَم فضائله وكثرتها أوّلاً، ولأفضليّتها علي غيرِه فيها.
حتي روي القندوزيّ عن عمر بنِ الخطّاب إنّه قال: سمعتُ رسولَ الله (صلّي الله عليه وآله) يقول لعلّي: (لو كان البحرُ مداداً، والرياضُ أقلاماً، والإنسُ كتـّاباً، والجِنُّ حُسّاباً، ما أحصَوا فضائلَك يا أبا الحسن).
ومن هنا روي ابنُ أبي الحديد المعتزليّ في (شرح نهج البلاغة) عن الشعبيّ أنّ الحسن بنَ عليّ قام إلي أبي بكروهو يخطب علي المنبر فقال له: انزل عن منبر أبي.
فقال: صدقتَ واللهِ إنّه لِمِنبرُ أبيك. كذا روي البغداديّ في (تاريخ بغداد)، وابنُ سعد في (الطبقات الكبري)، والهنديُّ في (كنزالعمّال)، وابنُ حجر في (الإصابة) وغيرُهم كثير مثلَ هذا ولكن فيه قولُ الحسين بن علي لعمر.
فأجابه: منبرُ أبيك لا منبرُ أبي.
ثمّ قال: وهل أنبتَ الشَّعرَ علي رؤوسنا إلاّ أبوك.
*******