ها نحن ندخل مرّة اخرى في أعماق التاريخ الغابر، ونعود الى أمس الدابر لنواصل رحلة بدأناها مع الشاعر العارف جلال الدين محمد الرومي البلخي المعروف بمولوي او مولانا.
نعم، من أجل دراسة أفكار شخصية مثل جلال الدين محمد البلخي، يبدو من اللازم في البداية الاجابة على هذا السؤال وهو لماذا صار مولوي مولويا او عارفاً بعبارة اخرى؟ وما هي مميّزات شخصيته يا ترى؟
وأيّ ظروف حلّت بهذا الشاعر حتى تمكّن أن يفيض هذا البحر المتلاطم الامواج من المعرفة والعرفان ويستخرج منه كلّ هذه الجواهر الثمينة، جواهر الادب الرفيع والعرفان المتعالي في دنيا العشق الالهي.
ما ذكرناه هنا لا ياتي من باب المبالغة في التعريف بل هو عين الحقيقة، ذلك أنه وعلى الرغم من انقضاء ما يقرب من ثمانية قرون من عمر الزمن، فإنّ الانسان المعاصر لم يتمكّن من استثمار كامل لئالي البحر الزاخر للمثنوي المعنوي وأن يغترف بما يروي ظمأه الفكري من نمير عذب هو منهل الفكر المولوي الاصيل، ولتمضي القرون وتتعاقب الازمان دون أن يجفّ بحر العرفان المولوي ودون أن يتوقّف الانسان عن سبر أغوار هذا البحر المحيط. ودعونا نستمع الى مولوي وهو يحدّثنا عن مثنويّه نعم ينقل في التاريخ أنّ مولانا دخل ذات مرّة على أحد أصدقائه في غرفة، فرأى ذلك الصديق وقد وضع كتاب المثنوي خلفه وأسند ظهره اليه.
فما كان من مولانا إلاّ الامتعاض من هذا العمل وقال لصديقه، مثل هذا الكتاب لا يضعه الانسان خلف ظهره ويتّكيء اليه، إنه كتاب سيكون له صيت عالمي في المستقبل.
ولقد تحقّقت نبوءة مولانا، وأصبح المثنوي عالمياً، بل إنّ كلّ أفكار مولانا هي اليوم وفي كلّ عصر ومكان كانت وما زالت محطّ اهتمام المفكّرين والباحثين، في شرق الارض وغربها عند المسلمين وغير المسلمين، وليس أدلّ على صحة هذا القول من كلّ هذا الاهتمام الذي نشهده بالمولوي شخصية وتراثاً ليس في عامه هذا فحسب بل في كلّ عام.
كان كلام مولوي حسناً جميلاً وهو ذاته كان يرى أنّ كلامه عبق بالحسن والجمال، وأنه كلام خالد لن تفنيه الدهور، ولن تفتّت أوصاله العصور بل إنه بقي محافظاً على تماسكه رغم تعاقب القرون والاعوام والسنين والايام.
لكن إذا كانت هذه هي نظرة مولوي الى كلامه فلنرى ماذا يقول الباحثون حول آثاره، أجل أيها الإخوة والأخوات يرى جميع الباحثين الذين درسوا آثار مولوي ونتاجاته الادبية والعرفانية أنّ السبب الاساسي في خلود جلال الدين محمد في عالم الادب والعرفان هو ذلك اللقاء الاستثنائي الذي جمعه وشمس تبريز في قونية، نعم في مدينة قونية في بلاد الروم في ذلك الوقت كان اللقاء التاريخي الاول بين جلال الدين محمد البلخي، وشمس ملك داد التبريزي كان مولوي قد أنهى العقد الرابع من عمره وكان شمس قد طلع من وراء ستة عقود من الزمن.
لقد وجد شمس في جلال الدين ضالته ووجد جلال الدين كيانه وكلّ وجوده في شمس، وتأثر جلال الدين أيّما تأثّر بكلام شمس، وكيف لا يتأثّر بهذه الدرجة وقد عرف عن شمس كما يذكر الباحثون قوّة تأثير كلامه على الآخرين، حتى إنّ البعض ليشبّهه بسقراط في تأثير كلامه على مستمعيه.
على أي حال لقاء شسمس بجلال الدين هو الذي جعل الروميّ مولوياً عارفاً.
فقد غادر جلال الدين دنيا الخطابة والوعظ، وتعالى في عالم العرفان، حيث الوصال والعشق الآلهي.
لم يستمرّ شروق شمس تبريز في سماء جلال الدين طويلا، أجل بعد نحو عامين غابت هذه الشمس بيد أنّ إشعاعاتها بقيت تفيض دفّ العرفان عند روح الشاعر الولهان.
وبقي مولوي يبحث عن شمسه التي غابت وكلّه شغف في أن يأنس من جديد بدفئها.
هي نفسه المختلجة وتحدّثنا عن هذا التطلّع، أبيات من مولانا انسابت انسياب القارب في الماء لا تلوي على شيء الا شمس، وأنّى له شمسه وقد غابت وراء الافق البعيد.
اي نوبهار عاشقان داري خبر از يار ما
اي از تو ابستن چمن، واي از تو خندان باغها
اي يادناي خوش نفس عشاق را فريادرس
اي پاكتر از جان، آخر كجا بودي كجا؟
*******
يا ربيع العاشقين، ألديك أي خبر عن حبيبنا؟
يا من حملت منك الحمائل، وضحكت بفضلك الحدائق
يا ريح الناي الجميل الالحان، لتسعف العشّاق
ويا من أطهر من الروح، في النهاية أين أنت أين؟
حضرات الافاضل، لنا وإياكم عودة الى جلال الدين محمد شاعر العرفان، طبتم وطابت أوقاتكم بكلّ خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******