جلال الدين محمد هو شاعر العرفان، هو اديب وعارف، تذوّق الادب الجميل، ونأى زخرف الدنيا في ذات الوقت، أي أنه اختار جمال المعنى دون جمال المادة، وتحررت بذلك روحه من أسر الدنيا الخادعة لتحلّق في عالم العشق الالهي، لكن كيف صار كل هذا لجلال الدين؟ نعم هذا السؤال جدير ان يطرح، ومن الجدير كذلك أن يجاب عليه، ولعلنا قد تطرقنا لبعض هذه الاجابة في ماضي حلقات هذا البرنامج.
على اي حال لقد كان شمس تبريز هو الذي اوجد كل هذا التحول في حياة الرومي فصّيره شاعراً عارفاً بعد ان كان خطيباً وواعظاً، حيث تدلّنا الدراسات التي تناولت حياة المولوي أنّ مولانا لم يقل الشعر قبل سنّ الاربعين حينما لم تكن شمس تبريز قد أشرقت بعد على وجوده لكن من بعد إشراق هذه الشمس بدّدت سحباً في حياة جلال الدين، فأصبحت سماء حياته صافية لا يزيّنها إلّا العشق الالهي، نعم من هو شمس يا ترى، هذا ما نريد ان نبحث عنه في هذه الحلقة حيث ودّعنا قبل أيام مؤتمراً دولياً حول مولانا عقد في طهران وآخر عقد في تبريز لتخليد ذكرى الرجلين اللذين تمازجت روحهما، وأرسلت إشعاعاتها الوضاءة الى دنيا الأدب والعرفان، اشعاعات لم يغمرها طول الزمان ولا تعاقب الدهور والقرون في دنيا المكان. اذن تعالوا إيّانا لشمس مفخرة من مفاخر إيران، نطلّ من نافذة التاريخ على بعض جوانب حياته، وفي هذه الإطلالة تتراءي لنا علياء العرفان بعد ان مازج الأدب فخرج الإثنان منهما كالعاشق لا بل العاشق الولهان.
نعم، محمد بن علي بن ملك داد التبريزي المعروف بشمس تبريزي او شمس الطائر ولد في مدينة تبريز الواقعة شمال غرب ايران في أسرة متوسطة الحال.
ومنذ طفولته بدأ شمس ولهاناً، لا تستقّر نفسه على حال. ويمّم هذا الصبي بناءاً على طلب أبيه وجهه صوب العلوم الدينية، فأخذ بدراستها لا سيما الفقه منها ولا تتوفر لدينا معلومات كثيرة عن أساتذة شمس في العرفان، لكّن المصادر التاريخية تدلّنا على أنّ شمس تبريز كان قد تعرّف على تعاليم العرفان عند الشيخ (أبي بكر سلّه باف) التبريزي.
الرؤية ذكرت صفات مولانا ودلّ على مكانه في قونية لكن في تلك الرؤيا قيل لشمس إنه لم يئن الأوان لهذا اللقاء وما عليك إلا الصبر حتى اليوم الموعود.
وبعد ان حلّ الوقت الموعود قدم شمس الى قونية وكان في الستين من عمره، ونزل شمس في خان حيّ باعة الرزّ في المدينة.
وذات يوم يحلّ موعد اللقاء وكان مولانا قد انتهى من درسه في طريقة الى بيته. شمس يعترض طريق الواعظ ويوجّه له سؤالاً، ويجيب مولانا على السؤال ومع هذا يفهم من شمس إشارته فيحتضنه ويأخذ بيده الى حجرة الشيخ (صلاح الدين زرين كوب) ويختلي الرجلان على مدى 40 يوماً وقيل لمدة ثلاثة أشهر.
هذه الخلوة هي التي أوجدت تحولاً أساسياً وعميقاً في حياة الرومي، فصار غير ما كان عليه بالأمس، كان مولانا قبل ان يلتقي شمساً واعظاً وخطيباً وعالماً بيد أنه قال لشمس بعد أن التقاه وبعد أن اختلى به إنّ كلّ هذه الكتب أصبحت لديّ لا ذوق لها.
نعم، لقد وضع شمس أمام مولانا طريقاً جديدا. لقد أخذ بيده من عالم العلم والتدريس الى دنيا العشق والمحبة والعرفان. وصار ذلك العالم الجليل، عارفاً عاشقاً.
كان شمس يعتقد كالكثير من العرفاء أنّ السّفر له تأثير كبير في التكامل الروحي لدى السالك لطريق الله، وبعد مدة اختار شمس طريق السفر وأخذ في اسفاره يفتّش ويبحث عن من يراه أهلاً للكمال.
وتنقّل شمس من بلاد الى أخرى ولهذا عرف بشمس الطائر. كان شمس في العشرين من عمره حينما غادر تبريز، واستمرت أسفاره أربعين عاماً، وهو في الستين من عمره وصل الى قونية في بلاد الروم.
وعلى مدى اربعين عاماً قضاها في الأسفار التقى شمس العديد من الشخصيات من أمثال شمس الدين الخوئي الذي التقاه في دمشق الشام، وشهاب الخراساني وأسد الدين المتكلّم.
والى جانب هذا تعرّف شمس على أفكار آخرين من أمثال محي الدين بن عربي صاحب الفتوحات المكّيّة واوحد الدين الكرماني، والفخر الرازي.
كان شمس تبريز يذكر ابن عربي باحسان وكان ينتقد البعض لا سيما بعض المتصّوفة الذين كانوا يرتكبون أعمالاً تخالف الاخلاق، ذلك أنّ شمساً كان يرى أنّ مراعاة الاحكام الشريفة أمر لازم للجميع.
وينقل عن شمس أنه كان يدعو الله ان يعرّفه بأحد أولياء الحق ليصاحبه، وفي عالم الرؤيا قيل لشمس سنجعلك صاحباً لأحد الأولياء، وفي تلك كان شمس يرى مولانا شخصية شفافة وجوهرة لمّاعة بين احجار صلدة، ومن هنا كان شمس يخشى ان يذهب بريق هذه الجوهرة سدى فلا يصل الرجل الى الكمال الحقيقي الذي يليق به. وتعالوا نفتح ديوان شمس لنرى ماذا كتب مولانا فيه.
اي نوبهار عاشقان داري خبر از يار ما
اي از تو آبستن چمن، واي از تو خندان باغها
اي باد ناي خوش نفس عشاق را فريادرس
اي پاك تر از جان، آخر كجا بودي كجا؟
*******
يا ربيع العاشقين ألديك خبر عن جيبنا؟
يا من حملت منك الخمائل، وضحكت بفضلك الحدائق
يا ريح الناي الجميل الالحان، لتسعف العشّاق
يا من أطهر من الروح، في النهاية أين انت، أين؟
اجل لقد غابت شمس تبريز عن سماء مولانا، ولم تغب عن وجوده ووجود الزمان، فتمازجت الروحان وكان أن قدّمت للإنسانية هدية الجمال الفتّان في دنيا العاشق الولهان، إنه جلال الدين محمد شاعر العرفان.
*******