السّلامُ عليك يا ابنَ رسولِ الله، السّلامُ عليك يا ابن عليٍّ المرتضي وصيِّ رسول الله، السَّلامُ عليك يا ابنَ فاطمة الزهراء سيّدةِ نساء العالمين. السَّلامُ عليك يا وارث الحسنِ الزكيّ، السَّلامُ عليك يا حُجّةَ اللهِ في أرضه، وشاهدِه علي خلقه، السّلامُ عليك يا أبا عبد اللهِ الشهيد، السّلامُ عليك يا مولايَ وابنَ مولاي. أشهدُ أنّك قد أقمتَ الصلاة، وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروفِ ونهيتَ عن المنكر، وجاهدتَ في سبيلِ اللهِ حتي أتاك اليقين، وأشهدُ أنّك علي بيّنةٍ من ربّك.
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته، وأعظَمَ اللهُ أجورَنا وأُجورَكم بالمصابِ الجَلَل في ريحانةِ المصطفي، أبي عبد الله الحسين (صلواتُ اللهِ عليه)، الذي كان يأسَفُ علي حالِ هذه الأُمّة وقد آل أمرُها إلي ترك الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، حتي تسلّط عليها شرارُها، وعُزِل عنها خيارُها، فقال (عليه السلام) يحكي حالها:
وقعنا في الخطايا والبلايا
وفي زمنِ انتقاضٍ واشتباهِ
تَفانَي الخيرُ، والصُّلحاءُ ذلُّوا
وعَزَّ بذُلّهِمِ أهلُ السَّفاهِ
وباءَ الآمرونَ بكلِّ عُرفٍ
فما عن منكرٍ في الناسِ ناهي
فصارَ الحُرُّ للمملوك عبداً
فما للحُرِّ من قَدر ٍوجاهِ
فهذا شُغلُه طَمَعٌ وجَمعٌ
وهذا غافلٌ سكرانُ لاهي!
والحسينُ (سلامُ اللهِ عليه)، وهوالإمامُ الحقّ، والوصيُّ المنصوصُ عليه من قِبَلِ رسول الله (صليّ الله عليه وآله)، الحجة علي الخلق، قد انصرف أغلبُ الناس عنه إلي أراذل القوم طمعاً أو ذلّةً في أنفسهم، منصرفةً قلوبُهم أو أنفُسهم عن سبط النبيّ، الذي وصَفَه ابنُ الحنفيّة بقوله: إنّ الحسينَ أعلَمُنا علماً، وأثقلُنا حلماً، وأقربُنا من رسولِ الله (صليّ الله عليه وآله) رحماً، كان إماماً فقيهاً.
أو كما قال يزيدُ بنُ مسعود النهشليّ في خطبةٍ له: هذا الحسينُ بنُ عليٍّ ابنِ رسولِ الله (صليّ الله عليه وآله)، ذو الشرفِ الأصيل، والرأيِ الأثيل، له فضلٌ لا يُوصَف، وعلمٌ لا ينزِف، وهو أولي بهذا الأمر (أي الخلافة)؛ لسابقتِه وسنّه وقِدَمِه وقرابتِه، يعطِفُ علي الصغير، ويحنو علي الكبير، فأكرِم به رعيّة، وإمامَ قومٍ وَجَبَت للهِ بهِ الحُجّة، وبَلَغت به الموعظة).
*******
المحاور: في الحلقة السابقة من برنامجكم هذا (البيان الحسيني) لاحظتم أن سيد الشهداء (عليه السلام) صرّح بأن الهدف الأول من أهداف نهضته المقدّسة واستشهاده هو الإصلاح في امةِ جده المصطفي (صليّ الله عليه وآله) وسؤالنا هنا هو: هل تحقق للحسين (عليه السلام) ما اراد؟ نستمع معاً لسماحة السيد جعفر فضل الله الاستاذ في الحوزة العلمية من بيروت في الاجابة عن هذا السؤال:
السيد جعفر فضل الله: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الانبياء والمرسلين، نحن نعرف ان المرحلة التي عاشها اخيها الحسين (عليه السلام) وتسلم فيها المسؤولية الفعلية بعد استشهاد اخيه الحسن (عليه السلام) هي مرحلة حساسة وخطيرة جداً بالنسبة الى الواقع الاسلامي عموماً حيث نجد ان المجتمع بدأ يعتاد على مشهد الانحراف الذي يشاهده في الحاكم وفي شخصيته التي تفتقر الى ادنى مقومات شخصية الحاكم الاسلامي وفي الفساد الذي يتحرك في الدولة الاسلامية حيث هناك نهب للثروات العامة لتتحرك لمنفعة الاشخاص وتتحرك الحدود لكي لايكون لها موقعاً في الحياة وبالتالي يفسد المجتمع عموماً، المشكلة هي ان الناس اصبحت معتادة في ذلك الوقت على هذا المشهد وهذا كان ينذر بأنحراف كبير جداً الى المستوى الذي يمكن ان ينطبق عليه ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة نوح (عليه السلام) حيث عندما دعا على قومه بأن يعذبهم الله قال: «رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا» ولذلك لم تكن المسألة تتحمل من الامام الحسين موقفاً وسطاً، رفض البيعة ليزيد بشكل مطلق حتى ولو ادى الامر وقد ادى الامر الى استشهاده، كان يريد الامام الحسين ان يهز ويصدم هذه الذهنية ليقول للناس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «انه من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً بعهده يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير ما عليه من قول وفعل فكان حقاً على الله ان يدخله مدخله» وكان يريد ان يقول لهم انظروا الى هؤلاء، هؤلاء الذين اطاعوا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ فلابد من التغيير فقال لهم: انا احق من غير.
ليقول لهم: عليكم ان ترسلوا دائماً القواعد الاسلامية التي اتت من خلال القرآن الكريم واتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم لتقيسوا هذه القواعد في المجتمع وتقيسوا بها الاشخاص وتقيسوا بها الافعال حتى اذا رافقتم هناك انحرافاً عن هذه القواعد الاساسية فعليكم ان تقوموا هذا الانحراف حتى لو ادى الامر ان تقوموا بثورة على الحاكم الجائر بشكل عنيف مما يتطلب ان تتحقق ظروفه الموضوعية، في كل الاحوال لقد نجح الامام الحسين (عليه السلام) في تجسيد هذه القيمة التي غابت عن المجتمع آنذاك، ان هناك قاعدة شرعية اسلامية ان ينطلق الانسان المسلم اياً كان من خلالها، كيف اذا كان امام المسلمين ولابد ان يتحرك فيها من خلال الواقع واليوم ما نشهده من وقوفنا في مواجهة الاستكبار العالمي المتمثل بالدرجة الاساسية بالولايات المتحدة الامريكية ومن يتبعها من البلدان الغربية او في مقابل الكيان الصهيوني الغاصب للارض والمنتهك للمقدسات والحرمات، ما نشهده اليوم من موقف صلب هو صدى لهذه الثورة التي اكدت حضور القاعدة الاسلامية التي تقول لنا: «وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» والتي تتحدث عن ضرورة ان يكون العدل هو الذي يسود في حياة الامة، عندما نرصد واقعنا اليوم في المواقف الاساسية الاسلامية الاستراتيجية نلمح حركة للقوة فيها وموقفاً للعزة فيها فأننا نشعر بأن تلك المرحلة التي جسد فيها الامام الحسين خط القيمة وخط الشهادة التي اوصلت الاسلام في قواعده الاساسية وفي خطه المستقيم وفي بياضه الناصع الينا هذا اليوم ونحن مسؤوليتنا ان نوصله الى الاجيال من بعدنا.
*******
وكان الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) داعي الله في زمانه، فبثّ في الآفاق بياناتهِ الحكيمة، فتضمَّنتِ الإبلاغَ والإرفاق، والتنبيهَ والإشفاق، إشفاقه علي هذه الأُمّةِ التي لفَّتها الغفلةُ والطمع والضَّلالة، وإشفاقَه علي المظلومينَ من البيتِ الهاشميّ، فلابدّ أن ينهضوا بكرامتهم وعزّتِهم، ولا يكون لهم ذلك إلاّ إذا انضمّوا إلي الركبِ الحسينيِّ الراحلِ إلي الله تبارك وتعالي. كتبَ بعضُ المؤرّخين أنّ الحسينَ (عليه السلام) لماّ فصل متوجّهاً إلي مكة، دعا بقرطاسٍ فَكتَب: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إلي بني هاشم. أماّ بعد، فإنّه من لَحِقَ بي منكمُ استُشهِد، ومن تخلّفَ لم يبلُغِ الفَتح، والسلام).
فأيُّ فتحٍ هذا يا تُري والحسينُ (سلامُ اللهِ عليه) يُخبِر ويُنبئ أنّ اللِّحاقَ به والالتحاق برَكبِه يعني الشهادة؟! أجَل، إنّه الفتحُ الذي لا يتحقّق لأبناءِ الأمّةِ إلاّ إذا التحقوا بالحسين، بالحسينِ فقط، وإلاّ إذا انضمّوا إلي ركبِه الشريف وهو ركبُ الشهادة، فقد بَلغَ الأمرُ أن لا مُنقِذ إلاّ الحسين، ولا إنقاذَ إلاّ من خلال رَكبِ الحسين، ذلك الركبُ الإلهيُّ الراحلُ إلي الله بالشهادة المقدّسة، تلك التي بها حفظُ الإسلام ووعيُ المسلمين، وتدميرُعروش الطُّفاة والمفسدين.
نعم، إنّه الفتحُ الذي يعود بالعزِّوالكرامة، والسعادة الأُخرويّة، وشرفِ مرضاة الله تعالي، وإجلالِ الأجيال التي ستقفُ عند قبور الشهداء تتلو زيارتَهم وتكريمَهم وتمجيدَهم علي مدي القرون. إنّه الفتحُ الذي ينالُه المعتقدون بالإمامة، والمسلّمون لأوامرِ إمامِهم، والمطيعينَ له إلي حدِّ الشهادة بين يديه، فينالون الشرفَ السامي وقد أقبلوا علي الله تعالي مُضرَّجين بدماءِ الجهادِ المقبول، وتركوا أجسادَهم تجاور جسَدَ المولي سيد الشهداء (عليه السلام) في ذلك الحرم القُدسيّ، تطوف عليه ملائكةُ الرحمان آناءَ الليل والنهار، ويحوم حوله المؤمنون بخشوعٍ وإجلالٍ وتعظيم.
إنّ البيانَ الحسينيَّ الشريف، كان يُبلّغ الأمّةَ نهضتَه المقدّسة، ويستعرض للأمّة: الأسباب والأهداف، والتكاليف والمسؤوليّات؛ فإذا كان من شأن النبيّ (صليّ الله عليه وآله) حفظُ الشريعة بعد تبليغها، فإنّ من واجب الأُمّة الحفاظَ علي النبيّ والدفاعَ عنه، وكذا إذا كان من شأن الوصيّ (عليه السلام) صيانةُ الدِّين وضمانُ سلامته، فإنّ من تكليف الأمّةِ نُصرةَ الإمام الوصيّ والوقوفَ إلي جنبِه في محنته، بل من واجبِ أبنائها دَرءَ العدوان عن نفس الإمام الذي هوحياةُ الأمّة وبه بقاءُ الكون؛ إذ هوالحجّةُ الإلهيّة، ولولاه ساختِ الأرضُ بأهلها. فلا يسَعُ أحداً التخلُّفُ عنه وتَركه، ولا عُذرَ لِمَن يخذُله وهو قادرٌ علي نُصرتِه، وإلاّ حَلّ البلاءُ الأعظم، فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كما دعا عبيد الله بن الحر الجعفري ألي نصرته فأمتنع، قال (عليه السلام) له: (إنيّ أنصَحُك إنِ استطعتَ أن لا تَسمعَ واعيتَنا وصراخَنا، ولا تَشهدَ وَقعَتَنا، فافعل؛ فَوَاللهِ لا يسمع واعيتنا أحدٌ ولا ينصرنا، إلاّ أكبَّه اللهُ علي مِنخَرَيهِ في نار جهنّم!).
وتلك نصيحةٌ حسينيةٌ راحمة، بعد تكليف بيّنه، ودعوةٍ إلهيّةٍ بلّغَها ودعا المخلصين إليها، ليرحَل بِهِم إلي الله تعالي في رحلةٍ ساميةٍ شريفة، يرافقها التوفيق ويستقبلُها الفتح الأعظم ولكن بعد هائلِ وقعة، وشديدِ فَجعة، وبعد مقارعةٍ لكلِّ باطل، ومجابهةٍ لكلِّ ظُلم، ومواجهةٍ لكلِّ تحريف، ومقابلةٍ داميةٍ لكلِّ جورٍونفاق. نعم، وبعد أن تطيرَ في تلك الوقعة أيدٍ ورؤوس، وتسيلَ أنهرٌ من الدماء، وفي ذلك يُقتَل وليُّ الله أبو عبد الله الحسين تلك القَتلةُ الرهيبة، وهو ريحانةُ رسول الله وسبطُه الحبيب، وسيّدُ شبابِ أهلِ الجنّة، وقد وقفَ وقفةَ العزّالتي سَجَد لها الدهر وذُهِل، وأُعجِب لها الملكوت.
بأبي أبيَّ الضّيمِ سيمَ هو انُهُ
فلواهُ عن وِردِ الهوانِ إباءُ
لكنّما طَلَبَ الإلهُ لقاءَهُ
وجري بما قد شاء فيه قضاءُ
والهفَ قلبي يا ابنَ بنتِ محمّدٍ
لك والعدي بك أدركوا ما شاؤوا
يا ابنَ النبيّ، أقولُ فيك مُعزِّياً
نفساً، وعَزَّ علي الثَّكولِ عَزاءُ
ما غَضّ من علياك سوءُ صنيعِهِم
شرفاً، وإن عظُم الذي قد جاؤوا
إن تُمسِ مُغبَرّ الجبينِ مُعفّراً
فعليك من نورِ النبيِّ بهاءُ
وخلاصة ما تقدم في هذا اللقاء أن الإصلاح الحسيني في الأمة المحمدية والفتح الحسيني في التأريخ الإنساني والإسلامي تمثل في عرض أسوة تجسد القيم الإلهية لا يمكن إمحاء آثارها بسبب شدة الإيثار والتضحية والمظلومية التي تجلت فيها.
*******