اللهمّ صلّ على الحسين بن عليّ عبدك، وابن رسولك، وابن وصيّ رسولك، الذي انتجبته بعلمك، وجعلته هادياً مهديّاً لمن شئت من خلقك، والدليل على من بعثته برسالاتك، وديّان الدّين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن على ذلك كلّه، والسَّلام عليه ورحمة الله وبركاته.
اجركم الله تعالى على حسن مواساتكم رسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليه وعليهم)، بمصابهم بسيّد شباب اهل الجنّة أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، الذي أحيا هذا الدين العزيز بدمائه المقدّسة الزاكية، ومهجته الشريفة، بعدما كان منه من سيرته الطيبة العاطرة، فكانت حياته المباركة كلها بيانات إلهيّة نبويّة هادية إلى الإيمان والتقوى وشريعة الحقّ واخلاق الله تبارك وتعالى، تذكّر جميعها بآيات القرآن الكريم، وسنن النبيّ العظيم، وتبلّغ الناس على مدى الأجيال ما يريد الله جلّ وعلا منهم وما ينهاهم عنه، فهو (عليه السَّلام) وليّ الله، ووصيّ الله، وحجّة الله على العباد، وأمينه في كلّ أرض وبلاد، فجاءت الآيات من الله جلّ وعلا عديدة في تمجيده وأهل بيته، كآية التطهير، وآية المودّة أو القربى، وآية المباهلة، وآية الولاية وغيرهنّ، كذلك توافدت أحاديث المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وفيرة لم تحصها فصول ولا كتب، واشتهرت عنه خصال نيّرة طاهرة، أعجبت الأجيال، ودهشت العقول وما تزال، وجذبت إليها القلوب، وحيّرت الأقلام ماذا تكتب في وليّ شهيد كالحسين (صلوات الله عليه)، وكلّ ما ورد عنه بيانات للخير والحقّ والهدى والفضيلة والعلى والمجد. أجل، ولكن ما لا يدرك كلّه، لا يترك جلّه. كذا أنّ الميسور، لا يسقط بالمعسور، فلنستمع إلى ما كتبه السيّد علي جلال الحسينيّ في كتابه حول الإمام الحسين (عليه السَّلام)، حيث قال:
السيّد الزكيّ، أبو عبد الله الحسين (عليه السَّلام)، ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته، وابن أمير المؤمنين عليّ (كرّم الله وجهه). وشأن بيت النبوّة له أشرف نسب وأكمل نفس. جمع (عليه السَّلام) الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من: علوّ الهمّة ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم وفصاحة اللّسان، ونصرة الحقّ والنهي عن المنكر وجهاد الظّلم، والتواضع عن عزّ، والعدل والصبر والحلم، والعفاف والمروءة والورع، وغيرها. واختصّ (عليه السَّلام) بسلامة الفطرة وجمال الخلقة، ورجاحة العقل وقوة الجسم.
وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير: كالصلاة والحجّ، والجهاد في سبيل الله، والإحسان. وكان (عليه السَّلام) إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مرشداً بعمله، مهذّباً بكريم أخلاقه، مؤدّباً ببليغ بيانه، سخيّاً بماله، متواضعاً للفقراء، معظّماً عند الخلفاء، موصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته ، مشى من المدينة على قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة.
إلى أن قال السيّد الحسينيّ علي جلال: وكان الحسين في وقته (ونقول معه: ولم يزل ولا يزال ولن يزال) علم المهتدين، ونور الأرض ، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه، المقتفين آثار فضائله.
*******
وعندما نراجع كلمات الإمام الحسين منذ بدء حركته المقدسة والى إستشهاده (صلوات الله عليه) نجد فيها تأكيدات وإشارات الى وثاقة الإرتباط بين أهداف ملحمته وأهداف رسالات الأنبياء (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسَّلام) المزيد من التوضيح نستمعه اليه في الحديث الهاتفي التالي لسماحة الشيخ محمد الزعبي عضو مجلس الامناء في حركة التوحيد الاسلامي من لبنان:
الشيخ محمد الزعبي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين.
وبعد، لا شك ان رسالة الانبياء هي الاسلام بكامله والاسلام ليس آيديولوجية تحكم حياة الانسان في فترة من الزمان او في مكان محدد، الاسلام رسالة الله الممتدة من آدم الى يوم القيامة لذلك كانت رسالة الانبياء اخضاع الناس او تعبيد الناس لله سبحانه تعالى وهذه الدعوة لا يمكن ان تقوم من غير تضحيات ولذلك استشهد من الانبياء من استشهد وعذب من عذب، كانت دعوة الانبياء هي الشروق في وقت الظلام، هي ان تنادي بالحق في وقت يسيطر فيه الباطل ولذلك دعوة الحسين (عليه السلام) لا تختلف عن دعوة الانبياء وهو (عليه السلام) يقول: «لو لا اني رأيت شريعة قد عطلت وسنة قد اميتت ما خرجت» اذن قضية الحسين عليه الصلاة والسلام كانت تعطيل شرع الله ولذلك لم تكن قضيته قضية شخصية، لم يكن له ثأراً شخصياً مع الطاغية يزيد انما كانت قضيته قضية اقامة الحق واقامة العدل واحياء شريعة الله سبحانه وتعالى وهذه هي دعوة الانبياء ولذلك الحسين رضي الله عنه و(عليه السلام) انتصر في دعوته لأنه ترك صرخة مدوية الى يوم القيامة في وجه الظلم في كل زمان وفي كل مكان من هنا نريد نحن ان نوضح مفهوم ثأر الحسين، كل المسلمين يجب ان يسيروا في قضية ثأر الحسين سنة وشيعة لأن ثأر الحسين ليس من يزيد بن معاوية الذي عاش في فترة من فترات طغيانه ولكن ثأرمع طغيانه كله في كل زمان ومكان يعني لو كان الحسين اليوم حياً بيننا لكانت قضيته الظلم الامريكي الذي تمارسه على العالم اذن لازلنا نعيش النهضة الحسينية ولازالت دماء الحسين قادرة على ان تبعث في الامة حياة جديدة، عندما نستطيع ان نفهم القضية على حقيقتها ولانحصر انفسنا في الدائرة التاريخية الضيقة، ما خرج الحسين من اجل فترة زمنية معينة وما خرج من اجل نظام طاغ معين انما خرج من اجل الانسان في كل زمان ومكان، اراد ان يجسد القدوة والمثل الاعلى للانسان، كيف يتحرك في وجه الظلم، قام بعائلته، بأولاده، ضحى بكل شيء من اجل ان يقول للانسان عليك ان لا تقول فقط : «ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» شعاراً انما يجب ان يمارس ولا يمكن ان تعيش هذا الشعار على حقيقته في الحياة اذا لم تكن مواجهاً للظلم، لا يمكن للاسلام ان يعيش بحالة مصالحة مع الطغيان هذا ما اراده الامام الحسين (سلام الله عليه)، اراد ان يقول مهما رأيتم من اشخاص مقدسين او من اشخاص محبوبين عندكم ولهم مكانة لكنكم ان وجدتموهم يدعونكم للتصالح من الظلم او للالتقاء مع الظلم او للسكوت على الظلم فهذا لا يمكن ان يكون دعوة الانبياء ولا ان يكون على خط الانبياء لذلك القضية قضية واحدة، قضية النهضة الحسينية وقضية نهضة الانبياء هي قضية واحدة ممتدة من آدم الى يوم القيامة، صحيح ان الحسين قد استشهد لكنه ترك صرخة مدوية لا تقل ابداً عن صرخة كل انبياء الله في وجه الباطل وستبقى دماء الحسين تمد كل من يريد الحق وكل من يريد للحق ان ينتصر ومن يستعد ان يقدم للحق كل شيء، من يستعد ان تكون حياته وموته لله سبحانه وتعالى وحده سيبقى يستمد من نهضة الحسين ومن خط الانبياء لأن لا استطيع حتى ان ادخل في باب المقارنة لأنني اجد ان الامر واحداً تماماً.
*******
وقد تعرفنا على المضامين الرئيسة لخطابات الإمام الحسين (عليه السَّلام) فيما يرتبط بملحمته الإلهية قبل إستشهاده.
وبعد شهادته (عليه السَّلام)، بعد تلك الملحمة العظمى مازال ولم يزك ولن يزال ذلك الدم الحسينيّ القدسيّ يدلي ببياناته الشريفة في آفاق التاريخ، يذكـّر بكلماته الحكيمة الراشدة، وخطبه الواعظة الهادية، ورحلته الاستشهاديّة الفاتحة، وكيف حدا (عليه السَّلام) بركبه المخلص إلى مراقي الرّضوان، ومعالي درجات الجنان، فرافقه العزّ والشموخ والكرامة، والذّكر الطيّب الذي لا ينقطع.
ومع الدم الحسينيّ الزكيّ الفوّار، انطلقت البيانات الحسينيّة هذه المرّة في خطابات العقيلة المكرّمة، زينب الصدّيقة الصّغرى بعد أمّها الصدّيقة الكبرى، (صلوات الله عليهما)، فكانت لها كلمات واحتجاجات، وخطب وحوارات، عرّفت بالقيم الحسينيّة العليا، وفضحت الطواغيت والأدعياء، ووبّخت القتلة والمتخاذلين والجبناء، وكانت خطبتها في الكوفة دمغة مؤنّبة لرجالها، وقد قالت لهم فيها: ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون! ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حرمة له انتهكتم وقالت لهم ما لا ينسونه على مدى عمرهم، في حياتهم وبعد هلاكهم: فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب المسعى، وتبّت الأيدي، وخسرت الصّفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت عليكم الذّلّة والمسكنة!
وفي قصر الإمارة، أدلت العقيلة زينب بالبيان الحسينيّ الشجاع، يوم سألها عبيد الله بن زياد متشفّياً: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟!
فأجابته اللّبوة الحيدريّة على الفور بعزّة المنتصر بالله تعالى: (ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!).
وفي قصر الشام، تقف زينب الكبرى ابنة أمير المؤمنين تواجه طاغية زمانها فتردّ عليه أبيات الكفر يردّدها منتشياً:
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم أنتقم
من بني أحمد ما كان فعل!
فقالت له: وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذريّة (محمّد) (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، تهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّن أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت!
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألالَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
وتمضي البيانات الحسينيّة الشريفة على لسان الإمام السجّاد عليّ بن الحسين، والأئمة الهداة المعصومين (صلوات الله عليهم) عبر الأجيال على مدى القرون، فتجري في أقلام المؤرّخين والمؤلّفين، والعلماء والخطباء وأرباب المقاتل الحسينيّة، والشعراء والقرّاء، وأصحاب المجالس الحسينيّة، وجميع المحيين لأمر آل البيت (عليهم السَّلام)، في الشبكات العالمية، والفضائيّات الدوليّة، والنوادي الولائيّة، والشعائر العزائيّة، يمضي البيان الحسينيّ الحقّ يطبّق الآفاق، ويسري في عوالم الدنيا، جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، وقرناً بعد آخر، وحضارة بعد أخرى، ويبقى الحسين (عليه السَّلام) فاتحاً ومنتصرا، فإذا لم يكن الناس قد فهموا معنى الكلمة المباركة له من قبل: (ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح)، فلابّد أن يفهموها اليوم وهم يرون المجالس والزيارات والمحافل الحسينيّة معقودة في جميع أرجاء العالم على مدى اللّيل والنهار لا تنقطع ساعة بل ولا دقيقة واحدة، في مشارق الأرض ومغاربها، وكذا يرون عشرات آلاف الكتب الحسينيّة بجميع اللّغات في جميع المكتبات العالميّة.
فالحسين (صلوات الله عليه) ما زال في القلوب والضمائر، لا ينسى، ولن ينسى، وكذا مصائبه الجليلة لا تنسى، نردّدها عسى أن ندرك بعض الفتح الحسينيّ:
رزاياكم يا آل بيت محمّد
نغصّ لذكراهنّ بالمنهل العذب
أننسى، وهل ينسى رزاياكم التي
ألبّت على دين الهداية... ذو لبّ
أننساكم حرّى القلوب على الظّما
تذادون ذود الخمص عن سائغ الشّرب
أننسى بأطراف الرماح رؤوسكم
تطلّع كالأقمار في الأنجم الشّهب
أننسى دماءً قد سفكن وأدمعاً
سكبن وأحراراً هتكن من الحجب
*******