البث المباشر

"اكتشف إيران".. خوزستان (1)

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 13:55 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- بودكاست: الحلقة الأولى- نتحدث في هذه البودكاست عن رحلة إلى أرض تجمع بين التاريخ العريق والطبيعة المدهشة. من جبالها المكللة بالثلوج، إلى شواطئ الخليج الدافئة، ومن أسواقها النابضة بالحياة إلى فسيفسائها العرقية والثقافية.

مرحبًا بكم

في "اكتشف إيران"…

هنا، كل زاوية تحكي قصة، وكل مشهد يكشف سرًا جديدًا.

إيران… أرض الأسرار التي لا تنتهي.

ايران… أرض التاريخ والطبيعة.

حيث تتحول كل خطوة فيها إلى قصة جديدة، وكل نفس يفوح برائحة حضارة عريقة. بلدٌ شاسع في قلب آسيا، يمنحك أربعة فصول في آنٍ واحد:

من قمم الشمال الغربي المكللة بالثلوج، إلى شواطئ الخليج الفارسي الدافئة، ومن الغابات الكثيفة في الشمال، إلى الصحاري الواسعة والمدن الصاخبة بالأسواق والحياة.

تخيل أنك تعيش الشتاء والصيف والربيع والخريف… في يوم واحد فقط

إنها أرض الحضارات العظيمة، أرض الشعب الذي يفتح ذراعيه لكل سائح بكرم الضيافة وأصالة التراث. بلدٌ تُشكّل معالمه التاريخية والثقافية، إلى جانب تنوعه المناخي والطبيعي، فرصةً فريدةً لرحلة لا تُنسى، مليئة بالمغامرات والاكتشافات..

من أطلال الماضي إلى نبض الحاضر… كل مشهد هنا حكاية..

 

مرحبًا بكم أعزائي المستمعين في بودكاست اكتشف إيران.

في هذا البودكاست سنأخذكم إلى زوايا لم تُكتشف من قبل:

من التاريخ والثقافة، إلى الطبيعة والعادات والتقاليد؛ ومن الإمكانات الاقتصادية، إلى فرص الاستثمار والسياحة. كل ذلك برؤية جديدة، وأسلوب مختلف.

كونوا على يقين أن كل لحظة من هذه الرحلة ستكشف حقيقة جديدة، وتفتح نافذة على مشاهد لا تُحصى...

 

إيران… أرض الأسرار التي لا تنتهي، وكل زيارة تكشف سرًا جديدًا

 

انضموا إلينا لنُعيد معًا اكتشاف إيران…

هذه الأرض التي تحمل بين طياتها تاريخًا عريقًا وحضارةً أدهشت العالم عبر القرون. فمنذ آلاف السنين، وطأت أقدام الرحّالة هذه الديار، وترك كلٌّ منهم بصمته وقصصه التي ما زالت تتردد في ذاكرة المكان.

 

إيران… كتابٌ مفتوح على صفحات التاريخ، يروي في كل سطر حكاية مختلفة

تقع هذه البلاد في قلب الهضبة الإيرانية، غرب القارة الآسيوية، وتمتد على مساحة تُقارب مليونًا وستمائة وثمانية وأربعين ألف كيلومتر مربع، لتكون في المرتبة السادسة عشرة عالميًا من حيث المساحة. هذه الرقعة الشاسعة ليست مجرد أرض، بل جسرٌ حضاري يصل بين العالم العربي وآسيا الوسطى وآسيا الصغرى وشبه القارة الهندية.

 

هنا، تلتقي الطرق… وهنا تتلاقى الحضارات...

تحدّ إيران من الشمال تركمانستان وأذربيجان وأرمينيا، وعلى شواطئها يمتد بحر قزوين الساحر. ومن الجنوب، يطل الخليج الفارسي وبحر عُمان، بينما يحدّها العراق وتركيا غربًا، وباكستان وأفغانستان شرقًا.

بحرٌ من الشمال، وخليج من الجنوب.. طبيعة ترسم حدودها بالجمال، أما سكانها، فيبلغ عددهم اليوم حوالي 90 مليون نسمة، ينتمون إلى فسيفساء عرقية متنوعة. معظمهم مسلمون شيعة، لكن بينهم أيضًا مسيحيون وزرادشتيون ويهود عاشوا على هذه الأرض قرونًا بسلام.

 

تعدد في الأديان والثقافات… لكنه يجتمع تحت سقف واحد: اسم إيران

بفضل مئات المعالم التاريخية والثقافية الفريدة، تُصنَّف إيران بين أفضل عشر دول في العالم من حيث ثراء التراث الثقافي والتاريخي، وهو لقب منحته اليونسكو لهذه الأرض العريقة.

 

كل حجر هنا شاهد، وكل أثر يحكي عن حضارة لا تزال تنبض بالحياة.

وتتميّز إيران أيضًا بطبيعتها ومناخها الاستثنائي. فقد أتاح اتساعها الجغرافي وتفاوت ارتفاعاتها تنوعًا مناخيًا هائلًا؛ حتى أن الفرق في درجات الحرارة الشتوية بين أكثر مناطقها برودةً وأشدها حرارةً قد يتجاوز خمسين درجة مئوية!

تصوّر… في يوم واحد يمكنك أن تلمس الثلج وتغوص في البحر.. إنها واحدة من أفضل خمس دول في العالم من حيث المناخ والتنوع الطبيعي، حيث يمكنك أن تعيش الفصول الأربعة في آنٍ واحد: ففي الشمال الغربي والغرب تجد نفسك أمام قمم مثالية للتزلج والرياضات الشتوية، بينما في الجنوب تستقبلك شواطئ الخليج الفارسي وبحر عُمان بأجواء دافئة مثالية للسباحة وركوب القوارب.

أما إذا قررت السفر بضع ساعات فقط، فقد تنتقل من صحاريها الجافة الممتدة إلى غاباتها الكثيفة الخضراء.و تنوع مدهش يجعل من إيران قارة صغيرة داخل قارة كبرى.

وتتكون إيران اليوم من 31 محافظة، لكل منها طابعها الخاص ومكانتها الفريدة. ومن بين هذه المحافظات، تبرز خوزستان… المحافظة التاريخية النابضة بالحياة، والواقعة في الجنوب الغربي للبلاد.

 

خوزستان…

حيث يلتقي التاريخ بالنفط، والطبيعة بالإنسان…

خوزستان… من أقدم مناطق إيران، أرض يلتقي فيها التاريخ بالطبيعة، والثقافة بالحياة اليومية. ما يميز هذه المحافظة عن غيرها من سائر البلاد هو أجواءها الخاصة… تلك التي لا تُشبه إلا نفسها.

صوت نهر كارون وهو يهمس ليلاً… وصخب الأسواق بألوانها وروائحها… كل ذلك يرسم لوحة لا تُنسى... زيارة خوزستان تعني دخول عالم من الليالي المليئة بالموسيقى، والأحاديث الودية الدافئة مع أناس يفتحون قلوبهم لك كما لو كنت واحدًا من عائلتهم.“

 

“في خوزستان، لا تكون غريبًا… فأنت ضيف، والضيف هنا ابن الدار”.

شوارع آبادان وأهواز تحمل أجواءً لا تُشبه سوى الحب… حب يبقى في الذاكرة ويأسر كل من يمرّ بها. وهي أيضًا موطن لأشهى أطعمة الشوارع في إيران، حيث يتحول تناول وجبة سريعة إلى ذكرى لا تُنسى.

 

“من لقمة الفلافل إلى رائحة التوابل… هنا الطعام قصة حب أخرى.”

خوزستان… أرض الشمس التي تشرق لتدفئ القلوب، حيث تجد متع الحياة البسيطة والعميقة في كل زاوية. وأفضل وقت لزيارتها هو ما بين أكتوبر ومارس، حين يتحول الطقس الحار والرطب إلى جو معتدل لطيف، بدرجات حرارة تتراوح بين 15 و25 مئوية، مناسبة تمامًا لاكتشاف معالمها السياحية.

 

“شتاء معتدل… وصيف مؤجل… هنا الخريف والربيع يرحّبان بك.”

السفر إلى خوزستان تجربة لا تشبه غيرها، فهي رحلة إلى أرض التاريخ والطبيعة. لكن الاكتشاف لا يقتصر على المشاهدة فقط، بل يتجاوزها إلى الاستماع إلى حكاياتها العريقة، والتعرف على إبداع أسلافها، والتحليق في أجواء بساتين النخيل والأنهار والوديان.

 

“خوزستان… ليست وجهة سياحية فحسب، بل نافذة إلى روحٍ حية وتاريخٍ مجيد

 

هكذا هي خوزستان… أرضٌ لا تُشبه سواها، تختزن في ثناياها التاريخ، وتفيض بالحياة في أنهارها وأسواقها وشوارعها. وكل زاوية فيها تُخبرك أن الرحلة إليها ليست مجرد زيارة، بل تجربة تعيشها بكل حواسك.

“والآن…

حان الوقت لنبدأ رحلتنا معكم في هذه الحلقة الجديدة من بودكاست اكتشف إيران، لنغوص معًا في تفاصيل هذه الأرض، ونكشف أسرارها خطوة بخطوة."

تقع خوزستان في جنوب غرب إيران، مطلّة على مياه الخليج الفارسي، وهي مركز استخراج النفط في البلاد. في عام 1908، حُفرت أول بئر نفط صناعي في العالم بمدينة مسجد سليمان، لتكون نقطة انطلاق صناعة النفط الإيرانية الحديثة.

 

“من هذه البقعة الصغيرة… انطلقت شرارة غيرت وجه الاقتصاد الإيراني والعالمي.”

وبفضل موقعها الاستراتيجي واللوجستي، وبما تملكه من موارد طبيعية هائلة، تحتل خوزستان المرتبة الثانية في الناتج المحلي الإجمالي لإيران بعد العاصمة طهران.

تبلغ مساحتها نحو 64 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل تقريبًا مساحة لاتفيا أو ليتوانيا، وعاصمتها مدينة أهواز. ويبلغ عدد سكانها حوالي خمسة ملايين نسمة، لتكون خامس محافظة في إيران من حيث الكثافة السكانية. تحدّها شمالًا محافظتا لرستان وإيلام، وشرقًا جهارمحال وبختياري وكهكيلويه وبوير أحمد، وجنوبًا الخليج الفارسي، وغربًا العراق.

 

“خوزستان… حدودها مرسومة بالطبيعة والتاريخ، وبوابتها مفتوحة على العالم.”

أما اسمها، فيعود إلى كلمة “خوزي” أو “حوزي”، وهو اسم شعب ذُكر مرارًا في النقوش الفارسية القديمة في عهد داريوش الكبير وخشايارشاه. ويُرجَّح أن هذا الشعب، المعروف بشجاعته في الحروب، قدِم إلى سهل خوزستان من الشمال، لترتبط لغة وثقافة هذه الأرض بجذور ضاربة في القدم.

 

“كل اسم هنا يحمل ذاكرة… وكل ذاكرة تنبض بشجاعة وبطولة.

خوزستان من أقدم مناطق الحضارة الإنسانية؛ ففي مدينة شوش وُلدت أولى حضارات العالم قبل أكثر من ستة آلاف عام، وأسست لاحقًا الدولة العيلامية القوية. خلال العصر الأخميني، كانت هذه الأرض جزءًا مهمًا من الطريق الملكي، وكانت شوش مدينة غنية محبوبة لدى الملوك.

وفي عهد الأشكانيين، تمتعت خوزستان باستقلال ذاتي واسع، حافظت من خلاله على خصوصيتها مقابل تقديم العطايا. أما في العصر الساساني، فكانت من أوائل المناطق التي خضعت لسيطرة هذه السلالة، وأُدرج تطويرها ضمن أولويات الحكم. ويشهد على ذلك إعادة إعمار مدن مثل شوشتر وأهواز وجُندي شابور، وبناء الجسور العديدة، التي تعكس مكانة خوزستان المميزة عبر العصور.

 

“حضارة تمتد لآلاف السنين… وما زالت تشع نورًا حتى اليوم.”

وصف الجغرافي والمؤرخ اليوناني الكبير في العصور القديمة استرابون خوزستان بأنها من أكثر السهول خصوبة في العالم؛ فالأنهار الغزيرة التي تخترقها كانت تروي سهولها الشاسعة، وتمنح شعبها القدرة على الزراعة والتنمية.

 

“حين يتحدث استرابون عن أرض، فاعلم أنك أمام جغرافيا استثنائية تستحق التأمل.”

أما الرحّالة المغربي الشهير ابن بطوطة، فقد كتب عن مدينة شوشتر قائلاً: “وصلتُ أخيرًا إلى مدينة تُستراي (شوشتر)، الواقعة على تخوم السهل والجبال. إنها مدينة واسعة وجميلة، ذات حدائق غنّاء وأسواق عامرة. تنتشر البساتين على ضفتي النهر، وتفور بركاتها بالماء، وأسواقها نادرة لا مثيل لها.”.. “هكذا رآها ابن بطوطة… مدينة تفوح منها رائحة الخصب والتجارة، وجمال لا يخبو بمرور القرون.”

ويذكر أقدم كتاب جغرافي فارسي بعنوان حدود العالم ازدهار مدن خوزستان وأسواقها في ذلك الوقت، قائلاً: “كانت الزراعة في هذه المنطقة، وخاصة قصب السكر، من أبرز المنتجات، كما كانت الصناعات اليدوية مثل السجاد، والحرير، والفراء، والأقمشة، والملابس، وحتى الوزرة، تُنتج في خوزستان وتُصدَّر إلى المناطق المجاورة.”

 

“لم تكن خوزستان مجرد سهلٍ خصب، بل ورشة عمل تنبض بالحرف والفنون.”

ومن الطريف أن مؤلف كتاب حدود العالم ما زال موضع خلاف؛ فبينما نسبه البعض إلى أبي يوسف البيشاوري، يرى المستشرق فلاديمير مينورسكي أنه من تأليف إشعياء بن فريغون. وقد كُتب الكتاب عام 372 هـ/982م تقريبًا.

وما يثير الدهشة أن هذا الكتاب، قبل خمسة قرون من رحلات كولومبوس، أشار إلى كروية الأرض، وذكر أن لها قطبين شماليًا وجنوبيًا، كما تحدث عن الخليج الفارسي، بل وناقش نظرية أبي ريحان البيروني حول وجود قارة مجهولة وراء المحيط، هي ما عُرف لاحقًا بالقارة الأمريكية.

 

“تصوّروا… قبل كولومبوس بقرون، كان العقل الإسلامي والفارسي يناقش كروية الأرض ووجود عالم جديد!”

هكذا وصف استرابون خوزستان بسهولها الخصبة، ورآها ابن بطوطة بحدائقها وأسواقها، وسجّلها مؤلف حدود العالم بثرائها الزراعي والصناعي ومعرفته الكونية المتقدمة. شهادات من عصور مختلفة، لكنها تجتمع على حقيقة واحدة: أن خوزستان لم تكن يومًا أرضًا عادية، بل كانت قلبًا نابضًا بالحضارة والفكر والازدهار.

“لكن… ماذا عن خوزستان اليوم؟

كيف تبدو معالمها الحديثة؟

وكيف تحافظ هذه الأرض على مكانتها في قلب إيران المعاصرة؟”

ابقوا معنا،

ففي الجزء التالي من حلقتنا من اكتشف إيران، سنأخذكم من صفحات التاريخ إلى ملامح الحاضر، لنكشف كيف لا تزال خوزستان أرضًا تجمع بين الماضي المجيد والواقع الحي.

لنعد إذن إلى الموضوع الرئيسي لحلقتنا…

 

خوزستان، المحافظة التي لم تكن مجرد تاريخٍ وجغرافيا، بل كانت أيضًا مهدًا للعلم والمعرفة والثقافة.

ومن أبرز شواهد ذلك جامعة جُندي شابور، التي أسسها الملك شابور الأول في القرن الثالث قرب مدينة دزفول. كانت هذه الجامعة مركزًا علميًا فريدًا من نوعه، جمع بين أطباء وعلماء من اليونان، ومصر، والهند، وروما. وفي عهد شابور الثاني تم تجديدها وتوسعتها، ثم جاء أنوشيروان ليكمل مشروعها ويجعلها منارةً علمية مضيئة.

 

“تخيّلوا… جامعةٌ عمرها أكثر من 17 قرنًا، سبقت جامعات الغرب بقرون طويلة.”

بتاريخها العريق، تُعتبر جامعة جندي شابور من أقدم المراكز التعليمية في غرب آسيا، حيث قدّمت تعليمًا في مجالات الطب، والفلسفة، والإلهيات، والعلوم، مستندةً إلى التقاليد الزرادشتية والإيرانية، وإلى المعارف اليونانية والهندية في آن واحد.

ولأن الطبيعة في خوزستان وفّرت مناخًا لطيفًا وأرضًا خصبة، فقد كانت بيئة مثالية لنمو المعرفة الطبية وتدريب الأطباء المتميزين. وخلال العصر الساساني، نشطت المستشفيات والمراكز الطبية في خوزستان بشكل واسع.

 

“هنا… لم يكن النهر فقط يجري بالماء، بل جرى معه العلم والمعرفة إلى العالم.”

ووفقًا للمصادر التاريخية في العصر الإسلامي، فقد لعبت خوزستان لاحقًا دورًا مهمًا في نقل العلوم الطبية إلى الحضارة الإسلامية. بل إن أولى مستشفيات الإسلام بُنيت على طراز مستشفى جُندي شابور، ليظل أثرها حاضرًا حتى بعد قرون.

 

“من دزفول إلى بغداد… ومن خوزستان إلى العالم، امتد نَفَس العلم الذي لا ينقطع.”

مع بزوغ فجر الإسلام، كانت خوزستان من أوائل مناطق الهضبة الإيرانية التي دخلها المسلمون. فبعد فتحها ما بين عامي 14 و17 هـ، أصبحت جزءًا من أراضي الخلافة الإسلامية، وظلّت لفترة طويلة تحت حكم الأمويين ثم العباسيين.

 

“خوزستان… بوابة الإسلام إلى قلب الهضبة الإيرانية.”

لاحقًا، سيطر عليها الديلميون، ثم البويهيون خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، قبل أن تتناوب عليها حكومات إيرانية أخرى مثل السلاجقة، والغزنويين، والصفويين، والأفشار، والزنديين، وصولًا إلى القاجاريين.

 

“كل سلالة حكمتها تركت بصمتها… لكن خوزستان بقيت شامخة بوجه الزمن.”

ومع اكتشاف النفط، ارتبط اسم خوزستان وتاريخها بهذه الثروة الجديدة. فقد شكّل حفر أول بئر نفط صناعي في مسجد سليمان عام 1908 بداية عهد جديد، سرعان ما تداخل فيه الاقتصاد مع السياسة. ومع بناء مصفاة آبادان عام 1912، ومدّ خط أنابيب من مسجد سليمان إلى الخليج الفارسي، ازدادت أهمية هذه الأرض استراتيجيًا واقتصاديًا.

 

“من هنا بدأ النفط يحكم السياسة… ويغيّر ملامح خوزستان.”

لكن هذا الازدهار لم يكن بعيدًا عن الصراعات. فمع ضعف الحكومة المركزية الإيرانية آنذاك، وبدعم بريطاني مباشر، ظهرت خطة لتقسيم خوزستان. ولعب الشيخ خزعل دورًا رئيسيًا في هذه المؤامرة، حين أعلن نفسه أميرًا لخوزستان بمساعدة الإنجليز، الذين سعوا لضمان السيطرة على النفط. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات البريطانية خوزستان بحجة حماية حكم الشيخ خزعل، وللسيطرة عمليًا على منابع النفط في الجنوب.

 

“لم تكن خوزستان مجرد أرض… بل ساحة تنافست عليها القوى الكبرى.”

لكن في عام 1923، أعادت الحكومة المركزية الإيرانية بسط سيطرتها، وتم تثبيت خوزستان رسميًا جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية. “وهكذا… وبعد عواصف السياسة والنفط، عادت خوزستان إلى حضن الوطن الأم.”

 

“لكن الحكاية لم تتوقف هنا… بل بدأت مرحلة جديدة رسمت ملامح خوزستان في العصر الحديث.”

فاليوم، لم تعد خوزستان مجرد ساحة صراع بين الإمبراطوريات، بل تحولت إلى قلب نابض للاقتصاد الإيراني، بما تمتلكه من نفط وغاز، وزراعة وصناعة، وتنوّع سكاني وثقافي جعلها أشبه بفسيفساء حيّة..

 

“من تاريخها العريق… إلى حاضرها المزدهر… خوزستان تواصل كتابة فصل جديد من الحكاية.”

ورغم أن خوزستان رسّخت مكانتها في جغرافيا إيران السياسية، فإن الصراعات والنزاعات لم تغب عنها. فمع قيام الدولة العراقية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، راحت حكومتها منذ البداية تفكّر في فصل خوزستان عن إيران، طمعًا في ثروتها النفطية الهائلة. ومن أجل ذلك، حرّضت طويلًا عرب خوزستان ضد الحكومة المركزية الإيرانية، وأشعلت الصراعات في أرجاء المحافظة.

 

“النفط هنا لم يكن ثروة فقط… بل كان أيضًا وقودًا للصراع”..

وبعد تأميم النفط الإيراني عام 1940، عادت بريطانيا لتثير من جديد قضية الانفصال وإقامة ما سُمّي بدولة خوزستان العربية المستقلة. وسعت حينها إلى تحريض القبائل البختيارية والقشقائية والعربية على الحكومة المركزية. غير أن سقوط حكومة مصدّق، وتوجّه النظام الجديد في طهران نحو الغرب، جعل فكرة الانفصال تتلاشى تدريجيًا.

 

“مخططات كبرى… انهارت أمام إرادة التاريخ والجغرافيا.”

وفي عام 1974، انتهت النزاعات الحدودية بين إيران والعراق بتوقيع اتفاقية الجزائر، التي حدّدت الحدود عند خط التالوگ في أعمق نقطة من نهر أروند. لكن الاتفاقية لم تُنهِ التقلبات. فبعد انتصار الثورة الإسلامية، كثّف حزب البعث العراقي جهوده لفصل خوزستان، حتى جاء يوم 21 سبتمبر 1979، حين غزا النظام البعثي إيران واحتل أجزاءً من خوزستان والمناطق الغربية.

 

“كانت لحظة اختبار… إما أن تنكسر خوزستان، أو تُسطّر ملحمة جديدة.”

ورغم أن القوات العراقية احتلت عدة مدن وحاصرت أخرى في الأشهر الأولى من الحرب، فإن القوات الإيرانية سرعان ما استعادت زمام المبادرة، وحرّرت معظم تلك المناطق في فترة وجيزة. وخلال سنوات الحرب الثماني، قدّمت خوزستان وسائر المحافظات الحدودية أبهى صور التضحية والفداء.

 

“ثماني سنوات من الدم والدموع… لكنها صارت رمزًا للشجاعة والوحدة.”

واليوم، تحولت المواقع التي شهدت أشرس المعارك إلى معالم خالدة، مثل أروند كنار، وشلمجة، وفكّة، وطلائية، ومدينتي آبادان وخرمشهر. يزورها كل عام آلاف الإيرانيين لإحياء ذكرى سنوات الدفاع المقدّس، واستذكار تضحيات أشجع أبناء الوطن الذين حموا أرضهم بدمائهم.🎙️

 

“خوزستان… حيث تختلط الأرض بذاكرة الشهداء، وتبقى كل زاوية شاهدًا على ملحمة لا تموت.”

وهكذا…

كتبت خوزستان بدمائها واحدة من أعظم صفحات التاريخ الإيراني الحديث. صمدت في وجه الحرب، وحوّلت الألم إلى رمز للشجاعة والوحدة.

 

أصدقائي الأعزاء…

ها نحن نصل إلى ختام الحلقة الأولى من بودكاست اكتشف إيران.

وفي هذه الرحلة الصوتية الأولى، رافقناكم إلى خوزستان، إحدى أقدم مناطق إيران، تلك الأرض التي سكنها الإنسان منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، وعاشت فصولًا متقلبة من الصعود والهبوط، من المجد والصراع، لتبقى حتى اليوم شاهدة على التاريخ ومخزونه العريق..

“خوزستان… لم تكن مجرد محافظة على الخارطة، بل كانت قلبًا نابضًا بالحضارات، ومسرحًا للأحداث التي صنعت وجه المنطقة”..

لكن هذه الحلقة لم تكن سوى البداية… بداية لاكتشاف تاريخ إيران وجمالها وأسرارها المتوارية في تفاصيل محافظاتها.

وفي محطتنا القادمة، سنبقى مع خوزستان، لكن بعيون مختلفة: سنتحدث عن طبيعتها الفريدة، عن أنهارها وجبالها وواحاتها، عن عمارتها التاريخية التي تنبض بالحياة، وعن إمكانياتها الاقتصادية التي جعلتها مركزًا حيويًا في قلب إيران الحديثة..

“رحلتنا مستمرة… وكل حلقة فصل جديد من كتاب إيران الكبير.”

ابقوا معنا في الحلقة القادمة من اكتشف إيران، حيث نروي لكم قصة جديدة، ونكشف معالم أخرى من أرض الحضارات..

حتى ذلك الحين…

إلى اللقاء.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة