ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لَحْظُ الإنْسانِ رائِدُ قَلْبِهِ".
وتشير هذه الجوهرة الكريمة إلى العلاقة الوثيقة بين العين وما ترى، والقلب وما يستقر فيه من مشاعر وأحاسيس، وتكشف عن أن النظرة تُعتبر بوابة القلب، فهي تعكس ما يراه الإنسان في داخله ويستحضره في وجدانه، وبهذا تعكس فهماً عميقاً للترابط بين الحواس ومؤثراتها النفسية على الإنسان، وكيف يؤثر النظر على القلب وأحاسيسه.
إن نظرة الإنسان تقود قلبه وتوجّه مشاعره وأفكاره، فالعين تنقل الصورة إلى القلب الذي يحلِّل الصورة ويتأثَّر بها سلباً أو إيجاباً، وفي كلا الحالَين يصبح مشغولاً بما يراه، وبهذا تكون العين مسؤولة بشكل كبير عن تحفيز الإحساس العاطفي والروحي الذي يختلج في قلب الإنسان، فعندما يقع البصر على شيء، فإن هذا الشيء يخلق تفاعلاً داخلياً في نفس الإنسان، بناءً على طبيعة الشيء الذي وقع عليه النظر.
وتشير الدراسات النفسية إلى أن للنظر تأثيرات قوية على العواطف والذاكرة، فالعين تعتبر النافذة التي يدخل منها الكثير من المعلومات الحسية إلى القلب، لذلك، يعتبر النظر أحد أهم العوامل المؤثرة في توجيه الحالة النفسية والعاطفية للإنسان.
فالتعرض لمشاهد معينة يولّد مشاعر من الرضا والراحة، بينما يؤدي النظر إلى مشاهد أخرى إلى إحساس بالإثم أو الذنب أو الحزن.
والدراسات العلمية تشير إلى أن الإنسان يمر بتجربة داخلية نتيجة لما تراه عيناه، فقد يحرك البصر شهوةً أو يستثير عاطفةً أو يولّد فكرةً، وكل هذا يظهر في القلب ويؤثر في النفس، وبحسب علم الأعصاب، يمكن للنظرة أن تثير استجابات تلقائية في الجهاز العصبي، الأمر الذي يؤكد تأثير النظر على الحالة العاطفية والنفسية للإنسان.
مما سبق تتبين لنا العلة التي دعت الشريعة الإسلامية للحَثِّ على غَضِّ البصر، وضرورة ضبط النظر، وتجَنُّب الوقوع في الفِتَنِ الناتجة عن النَّظر إلى المُحرَّمات، وقد نَبَّه الله تعالى إلى ذلك في الكثير من الآيات الكريمات، منها قوله تعالى:
"قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿30﴾ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ... ﴿31/ النور﴾.
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تُهاجُ فيه الشهوات في كل لحظة، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سّعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرِّجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيِّج ذلك السّعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!، وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
إن غَضَّ البصر من جانب الرجال أدب نفسي، واستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة و الغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم، وهذا هو الأزكى لهم والأطهر لمشاعرهم، وهو أطهر للمجتمع وأصون لحرماته وأعراضه، وعلى المؤمنات أيضاً ألا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصِِّصَة، أو الهاتفة المثيرة، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال.
هذا هو موقف الإسلام من النظر إلى الحرام، وتلك هي فلسفته، وقد وصف النبي (ص) النظر إلى الحرام بأنه سهم من سهام إبليس يصيب القلب، ويُبعِدُه عن الطمأنينة، ويوجَّهُهُ نحو المعصية، ويسلبه الطهارة الروحية، ويُضعِف الإيمان، فغالباً ما تكون النظرة المحَرَّمة هي الخطوة الأولى نحو أفعالٍ أكثر خطورة.
السيد بلال وهبي