البث المباشر

ترتيل القرآن؛ رحلة روحية مع كلام الله

السبت 4 أكتوبر 2025 - 15:40 بتوقيت طهران
ترتيل القرآن؛ رحلة روحية مع كلام الله

تشير الآية الشريفة "ورتل القرآن ترتيلا" إلى أن الترتيل يتجاوز جمال التلاوة، وهي روح تنظم نزول القرآن وقراءته، فهمه وتطبيقه، ومن ثم تنظم حياة الإنسان على أساس النظام والحكمة الإلهية عبر تدفقها في السلوك واتخاذ القرارات.

إن من أهم المفاهيم في التعامل مع القرآن الكريم هي كلمة "الترتيل"؛ وهي مفردة يقدمها القرآن نفسه كأسلوب للتلاوة وطريقة لفهم الكلمة الإلهية والتأمل فيها والعمل بها.

إن الأمر الإلهي الصريح في الآية الشريفة "ورتل القرآن ترتيلا" (سورة المزمل المباركة؛ الآية 4) يدل على أن الترتيل شيء يتجاوز جماليات التلاوة. وهذا المفهوم هو روح شاملة ومنظمة ينبغي أن تطغى على جميع مراحل التواصل الإنساني مع القرآن الكريم، من النزول والتلاوة وصولا إلى الفهم والأداء.

 

التحرير القرآني وتحرير النغم؛ الصوت في خدمة المعنى

إن من أولى خطوات في الفهم الصحيح لمفهوم الترتيل هي التمييز بين "التحرير القرآني" و"تحرير النغم". فالتحرير في تلاوة القرآن ليست الوسيلة الوحيدة لعرض مهارات القارئ الصوتية أو إبرازها فنيًا، بل ينبغي أن يخدم معنى الآيات ورسالتها الإلهية. ولا تتجلى قيمة هذا العنصر في تلاوة القرآن إلا عندما يُعمّق فهم الآية وتأثيرها.

ومن هذا المنظور، لا ينبغي أن تصبح تلاوة القرآن ساحةً للتنافس في المهارات الصوتية. فالغرض الأساسي من التلاوة هو إيصال الرسالة الإلهية وإيقاظ القلوب للتأمل والعمل.

كما قال النبي (ص): «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ».

ولكن هذه "الزينة" لا ينبغي أن تحل محل المعنى، بل ينبغي أن تُوصل المعنى. فالتحرير القرآني صحيح عندما يدعو المستمع إلى التأمل في الآيات لا إلى الإعجاب بالصوت، وهذه هي روح الترتيل في أدقّ طبقات التلاوة.

 

الترتيل؛ النظم الإلهي في جميع أجزاء التلاوة

إن الترتيل ليس مجرد أسلوب قراءة، بل هو "روح النظام" و"مبدأ الحكمة" في جميع أجزاء التلاوة. ويقول القرآن الكريم في آية أخرى:

«كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ» (سورة هود، الآية 1)؛

أي أن آيات هذا الكتاب مصحوبة بالنظام والثبات، ثم تُعبَّر عنها بدقة وترتيب. وهذا الترتيب الداخلي الموجود في نص القرآن الكريم ينبغي أن ينعكس أيضًا في تلاوته.

الترتيل يعني أن جميع عناصر التلاوة - من الوقف والابتداء إلى التجويد- من الصوت واللحن إلى التحرير- تُستخدم في انسجام تام مع بعضها البعض ولغرض واحد. ويجب أن يخدم الوقف والابتداء المعنى والتأمل، ويجب أن يكون التجويد دقيقًا ليس فقط من حيث النطق، بل أيضًا من حيث إيصال المعنى، وحتى نوع التحرير يجب أن يكون منسجمًا مع رسالة الآيات. ةإذا اعتبرنا التلاوة جسدًا حيًا، فإن الترتيل هو الروح التي تُعطي المعنى والحياة والتوجيه لجميع أعضاء هذا الجسد.

يكتسب هذا المبدأ أهمية خاصة في عالمنا اليوم، حيث تتجه التلاوة أحيانًا نحو الاستعراض الصوتي. فالتلاوة بدون ترتيل، وإن كانت مُطربة للأذن، لن يكون لها أثرٌ روحيٌّ ومعرفيٌّ عميق. فالترتيل هو الذي تنقل التلاوة من أبسط صورها، أي أداء الكلمات، إلى مستوى أعمق، أي "إيصال المعنى" و"الهداية".

 

الترتيل في النزول؛ حكمة التدريج والانسجام مع الواقع

لا تقتصر روح الترتيل على التلاوة فحسب، بل تتجلى أيضًا في كيفية نزول القرآن الكريم. يقول الله تعالى:

﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ (سورة الإسراء، الآية ١٠٦)؛

أي أنزلناه أجزاء لتقرأه على الناس على مكث.

وتُظهر هذه الآية أن التدريج في نزول القرآن ليس حدثًا تاريخيًا، بل هو جزء من الحكمة الإلهية وروح الترتيل.

أنزل القرآن الكريم على مدى ٢٣ عامًا، وتم تنزيل كل جزء من آياته بما يتناسب مع الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية للمجتمع الإسلامي. ففي غزوة أحد، نزلت آيات تناولت إعادة بناء المسلمين روحيًا، وفي فترة السلم، نزلت آيات أخرى تناولت تنظيم العلاقات الاجتماعية. وهذا الانسجام مع الظروف والاحتياجات هو مظهر من مظاهر النظام الإلهي نفسه الذي يكمن في مفهوم الترتيل.

لقد أتاح تدريج النزول للقرآن الكريم للمجتمع الإسلامي فرصةً لسماع رسالة الآيات واستيعابها وتطبيقها في حياته. كما قال الإمام الصادق (عليه السلام):

«إنّ كتابَ اللّهِ على أربَعةِ أشياءَ: علَى العِبارَةِ، والإشارَةِ، واللَّطائفِ، والحَقائقِ»؛".

وكان هذا التدريج أساسًا لبلوغ البشر مستوى من هذه المستويات في كل مرحلة ونموهم. وهكذا، يُعدّ الترتيل في النزول نموذجًا للتعليم والتربية التدريجية والحكيمة.


 

الترتيل في التلاوة؛ الاعتدال، السكينة، والتدبر

إن الترتيل في مستوى التلاوة عبارة عن أيضًا مراعاة الاعتدال وتجنب العجلة. كما يقول القرآن الكريم، في وصفه للنبي (ص):

«لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ»" (سورة القيامة، الآية 16)؛ أي: لا تُعجِلْ لِسَانَكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآن.

تُحذِّر هذه الآية الشريفة من أن التسرع في التلاوة يمنع التدبر والفهم العميق ويُشوِّه روح الترتيل.

إن التلاوة، على طريقة الترتيل، ليست بطيئة إلى الحد الذي ينقطع فيه الاتصال بين الآيات، ولا سريعة إلى الحد الذي يضيع فيه فرصة التأمل. هذا النوع من التلاوة يُتيح مساحةً للتفكير، ويُجبر المستمع على التدبر في المعاني. فالتلاوة التي يتم فيها أخذ الترتيل بعين الاعتبار لا تُطرب الأذن فحسب، بل تُشغّل القلب والعقل أيضًا، فتنتقل بالمستمع من مرحلة الاستماع إلى مرحلة التفكير، وصولًا إلى العمل.

يُعدّ الالتزام بهذا المبدأ ذا أهميةٍ مضاعفة، لا سيما في تعليم القرآن الكريم للأطفال والمراهقين. فإذا تلقوا تلاوةً هادئةً ومنتظمةً وهادفةً منذ البداية، ستكون علاقتهم بالقرآن أعمق وأدوم. وفي الواقع، يُعدّ الترتيل وسيلةً للتلاوة الصحيحة، وأداةً لتنمية الذوق القرآني لدى الأجيال.

 

الترتيل في العمق: من تلاوة القرآن إلى الحياة القرآنية

تكتمل روح التأمل عندما يتجاوز حدود التلاوة ليشمل تطبيق القرآن الكريم. فالقرآن ليس مجرد كتاب يُقرأ، بل هو دليل للحياة.

يقول الله تعالى عن غاية نزول القرآن الكريم:

«كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» (سورة الصف، الآية ٢٩).

إن تدبر الآيات وتطبيقها في الحياة يتطلب تأملاً عملياً، أي التحرك خطوة بخطوة، بوعي وحكمة.

الترتيل عمليا يعني ألا يكون تطبيق تعاليم القرآن الكريم بتسرع أعمى يُسبب فوضى في المجتمع، ولا بتأخير مُبذر يُهدم روح التقوى. وكما كان نزول القرآن تدريجيا وحكيما، ويجب أن يصاحب تلاوته النظام والهدوء، فإن تطبيق القيم القرآنية في المجتمع يجب أن يكون تدريجيا أيضا:

"يبدأ بالإصلاح الداخلي والفردي وينتهي تدريجيا بإصلاح البنى والعلاقات الاجتماعية".

تُؤكَّد هذه الحقيقة أيضًا من منظور روائي. كما يقول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام):

«لا خَيرَ في قِراءةٍ ليسَ فيها تَدَبُّرٌ»، أي: لا خير في قراءة لا تُؤدِّي إلى التدبُّر.

التدبُّر جسرٌ بين التلاوة والعمل، والترتيل سبيلٌ لعبور هذا الجسر.

لذلك، ليس الترتيل مجرد توصية فنية في التلاوة، بل هو عبارة عن استراتيجية شاملة لعلاقة شاملة مع القرآن الكريم. ويُجسِّد هذا المفهوم روح النظام الإلهي من مرحلة النزول إلى مرحلة العمل، وينقلنا من مستوى القراءة إلى مستوى "الحياة القرآنية".

وهذا الترتيل يعني السيرَ بانتظام وهدوء على درب النزول، انسجامًا مع الحكمة الإلهية وتناسبًا مع القدرات البشرية.

ففي عالم يُختزل فيه القرآن الكريم أحيانًا إلى تلاوة طقسية غير فعّالة، فإن العودة إلى روح الترتيل تُنعش علاقتنا بهذا الكتاب الإلهي.

"الترتيل يعني قراءة القرآن الكريم ليس باللسان فحسب، بل بالقلب أيضًا؛ أن نسمعه ليس فقط بالأذن بل بالعقل أيضاً، وأن نضعه موضع التنفيذ ليس فقط بالكلمات بل نطبقه عمليا في الحياة".

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة