يُعدّ اليوم العالمي للسلام فرصة لإعادة التفكر والتأمّل في أهمّ الاحتياجات البشرية، ألا وهي إرساء السلام والعدالة الدائمين في العالم. وفي هذا اليوم، يجتمع الناس جميعاً حول القيم الإنسانية والكرامة والمودة، مُبرزين ضرورة السلام كمبدأ أخلاقي وديني.
يُولي القرآن الكريم والسنة النبوية للسلام مكانةً رفيعةً وفريدةً، كما أن تاريخ الإسلام حافل بأمثلة مشرقةٍ للسلام والعدالة. ومع ذلك، ثمة نقطةٌ أساسيةٌ يجب التأكيد عليها، وهي أن السلام في التعاليم الدينية ليس مفهوماً مطلقاً وغير مشروط، بل يجد معناه في إطار ظروف مُحددة وواقع سياسي وإنساني مُحدد.
يكون السلام مرغوباً فيه وضرورياً عندما تكون أسبابه مُهيأةً، والأطراف مُستعدةٌ ونواياها حسنة. لكن عندما ينتهك الكيان الصهيوني، بجبنه ودعمه المستمر من قوى الهيمنة كأمريكا، الحدود الأخلاقية والإنسانية والجغرافية، ويعتدي على أرواح وممتلكات المظلومين، فيتغير مفهوم السلام وتبرز ضرورة الدفاع المشروع.
وفي هذا الصدد، يؤكد القرآن الكريم، برؤية عميقة وواقعية، على ضرورة السلام وإباحة الدفاع المشروع وضرورته.
يصف سبحانه وتعالى في سورة الفرقان المباركة، الآية 63، عباده المخلصين بقوله:
«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا».
وهذا يعني أن عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض هونًا وسلامًا، وعندما يواجهون الجاهلين، يكون ردهم "السلام" لا العنف.
ترسم هذه الآية الشريفة صورة للمؤمنين المسالمين والمتواضعين الذين يتمسكون بالأخلاق والتسامح حتى في مواجهة العنف والجهل.
كما أكّد النبيّ الأكرم (ص) مرارًا على حفظ السلام والعدالة، وهناك رواياتٌ كثيرةٌ تتحدث عن إنهاء العداوات وتوسيع المودة والرحمة. وقد عرّف الإمام علي (عليه السلام) السلام والعدالة كجناحين رئيسيين لسعادة الإنسان ونجاته في نهج البلاغة، وهذه التأكيدات تُشير إلى الأهمية الاستثنائية للسلام في الثقافة الإسلامية.
كما أن تاريخ الإسلام حافلٌ بأمثلةٍ تُعتبر فيها الحرب دائمًا الخيار الأخير، والدفاع المشروع أداةً محدودةً، مُقيّدةً بالعدل والأخلاق. ويُعدّ صلح الحديبية، الذي وقّعه نبي الإسلام (ص) لمنع الحرب وحفظ الأمن، مثالًا بارزًا على أهمية السلام حتى في الظروف الصعبة. وفي ذلك الوقت، كان المسلمون في وضع ضعفٍ وضغط، لكنهم آثروا السلام على الحرب.
الدفاع؛ حق الإنسان الثابت في مواجهة الظلم
إلى جانب هذه التأكيدات العميقة على السلام، ينص القرآن الكريم صراحةً على أن الدفاع الشرعي حقٌّ ثابتٌ وضروريٌّ للإنسان ضد العدوان والظلم. ففي سورة الأنفال المباركة، الآية 39، يقول عز وجل:
«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
وفي الآية 190 من سورة البقرة، يقول تعالى:
«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».
وهذا يؤكد مجددًا أن الدفاع جائزٌ في مواجهة العدوان، وأن التعدي والظلم مرفوضان.
تبيح هذه الآية الحرب لمن اعتُدي عليهم، وتدعوهم إلى مراعاة العدل والأخلاق في الدفاع عن أنفسهم وتجنب الاعتداء. ويُظهر هذا القول بوضوح أن الحرب مشروعة فقط ضد العدوان، والتعدي مرفوض تمامًا.
كما ورد في سورة الحجرات، الآية 9:
«إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا».
تُؤكد هذه الآية على أولوية السلام داخل جماعة المؤمنين، وتُقصر نطاق الصراع على الصراعات الداخلية، لا على العلاقات مع الأعداء الخارجيين.
"السلام" و"الدفاع المشروع" مُكملان لبعضهما البعض
تُبين التعاليم القرآنية بوضوح أن "السلام" و"الدفاع المشروع" ليسا مُتعارضين فحسب، بل مُتكاملين. السلام هو الغاية الأسمى والقيمة النبيلة التي يُوصي بها الإسلام، ولكن هذا السلام لا يتحقق إلا باحترام الطرف الآخر لحقوق الإنسان وعدم انتهاكها. وعند وقوع العدوان والظلم، يُقدم الدفاع عن النفس كضرورة إلهية وإنسانية، يُبيحها الله ويُوصي بها.
في هذا السياق، فإن الهجمات الجبانة للكيان الصهيوني، إلى جانب الدعم الأمريكي المستمر، كأمثلة واضحة على انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات الصارخة للحدود الجغرافية والأخلاقية والإنسانية، لا مكان فيها للسلام مع العدو.
وفي مثل هذه الظروف، لا يُعد الدفاع المشروع جائزًا فحسب، بل هو واجب ديني وأخلاقي وإنساني، وبدونه لا يمكن الحفاظ على الأمن والعدالة والكرامة الإنسانية.
وأخيرا، ينبغي اعتبار اليوم العالمي للسلام فرصة لتذكر القيمة الحقيقية للسلام؛ سلامٌ قائمٌ على العدل والاحترام المتبادل، لا يرافقه ظلمٌ أو عدوانٌ أو أي انعدام للأمن.
إذن يعد الدفاع المشروع، الجهاد في سبيل الحق، ومواجهة العدوان، هي أيضًا مبادئ أساسية من مبادئ الإسلام السمحة، وقد أكّد عليها القرآن الكريم مرارً وتكرارا، ويجب فهمها وتطبيقها على الوجه الصحيح لإرساء الأمن والعدالة الدائمين لجميع الناس.