السلام عليكم أيها الأكارم ورحمة الله...
تحية من الله مباركة طيبة نستقبلكم بها ونحن نلتقيكم – بتوفيق الله – في حلقة أخرى من برنامجكم هذا.
والسؤال الذي نتناوله هو: (ما معنى توحيد الله عزوجل في الربوبية والتدبير وكل إنسان يجد نفسه يدبر شؤون حياته بنفسه؟)
وبعبارة أخرى، إن من الأمور الوجدانية أن الإنسان مخير في تدبير شؤونه فكيف يكون موحداً لله عزوجل في ربوبيته؟
الإجابة عن هذا السؤال تأتيكم بعد قليل فتابعونا على بركة الله.
أولاً نرجع إلى كتاب الله المجيد طلباً للإجابة، فنقرأ فيه الآيات التالية من سورة الأعلى حيث يقول جل جلاله في الآيات الأولى إلى الثالثة؛
" سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى{۱} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى{۲} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى{۳}"
ونقرأ في السورة نفسها في الآيات السادسة إلى الثامنة؛
" سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى{٦} إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى{۷} وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى{۸}"
ويقول عزوجل في الآيتين ۱٤و۱٥؛ " قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى{۱٤} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{۱٥}".
أيها الأحبة، الذي يتضح لنا بالتدبير في هذه الآيات الكريمة، أن الله تبارك وتعالى قد خلق الخلق بالنظام السوي الأحسن ثم قدر لها ما تحتاجه للوصول إلى كمالها المطلوب وقد هداها لذلك، أي أن ربوبيته عزوجل، مكملة لخالقيته، ومن تدبيره لشؤون خلقه إرسال الرسل، وبهم تتحقق أوضح مصاديق هداية العباد إلى صراط بلوغ الكمالات، كما أن من مظاهر الربوبية، تيسير الله عزوجل لعباده حركتهم على الصراط المستقيم وهو "الْيُسْرَى" وإعانتهم على طيه.
وأما قوله: " قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى{۱٤} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{۱٥}"، ففيه تنبيه إلى أن العبد عندما يكون تدبيره لشؤون حياته على أساس ما جاءت به رسل الله وبالإستعانة به عزوجل، فإنه بذلك يكون موحداً لله في ربوبيته عزوجل مؤمناً عملياً بأنه تبارك وتعالى ربه الأعلى.
أما إذا دبر العبد شؤونه خلاف ما يريده الله عزوجل واستجابة لأهواء نفسه أو أئمة الإلحاد فقد أشرك في الربوبية، وعليه يتضح أن تدبير العبد بنفسه لشؤونه يكون توحيدياً إذا كان على ضوء ما أراده الله عزوجل وما هداه إليه، في حين يكون من الشرك في الربوبية إذا لم يكن على ضوء ما يهدي له تبارك وتعالى.
يقول مولانا أميرالمؤمنين ومولى الموحدين – عليه السلام – في الخطبة (۲۷۰) من نهج البلاغة: "عظم [الله] عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره وقلة مقدرته وكثرة عجزه وعظيم حاجته إلى ربه".
في هذه الكلمات النورانية ينبهنا مولانا الوصي المرتضى – صلوات الله عليه – إلى عدة حقائق مهمة فيما يرتبط بالتوحيد العملي لله جلت قدرته في ربوبيته وتدبيره لشؤون خلائقه.
الحقيقة الأولى هي أن هذه الربوبية هي من العظمة والسعة لجميع شؤون الخلق بحيث لا يمكن أن يحيط بتفصيلاتها العلم البشري بالحواس الظاهرية أو بالقوة العقلية والقلبية؛ وهذا ما يختص بالله وحده لا شريك له، أي أن الله تبارك وتعالى هو وحده الرب الأعلى الذي يدبر شؤون خلقه في كل ما يحتاجونه للوصول للكمال الذي قدره لهم وهداهم إليه، فهو جل جلاله يدبر شؤون خلقه بهدايته التشريعية، أي بهدايتهم عبر رسله وشرائعه لما فيه صلاحهم ووصولهم إلى السعادة والكمال.
كما أن تبارك وتعالى هو الرب العليم بمصالح عباده وخلقه، يدبر شؤون خلقه بهدايته التكوينية أيضاً، أي أنه لا يهديهم إلى الصراط المستقيم نظرياً فقط، بل ويهديهم عملياً لذلك من خلال تيسير حركتهم على الصراط المستقيم، وإزالة العقبات التي تصدرهم عنه.
ولذلك يدعونا مولانا أميرالمؤمنين – عليه السلام – في تتمة كلماته النورانية المتقدمة إلى الرجوع إلى ربنا الأعلى سبحانه وتعالى في جميع شؤوننا وجبران قلة قدرتنا وكثرة عجزنا ومحدودية علمنا في تدبير شؤوننا، بسعة قدرته عزوجل وإحاطة علمه تبارك وتعالى ليفعل بنا ما هو أهله من الرحمة والإصلاح.
ومن هنا، مستمعينا الأفاضل، كان الدعاء مخ العبادة ولبها لأنه يعبر عن التوحيد العلمي من العبد لربه الجليل تبارك وتعالى في شؤون ربوبيته الرحيمة؛ وفقنا الله وإياكم لذلك ببركة موالاة محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
أعزاءنا مستمعي إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، نشكر لكم طيب المتابعة لحلقة اليوم من برنامج (أسئلتنا وأجوبة الثقلين) إلى لقاء مقبل بتوفيق الله نستودعكم رعاية الباري تعالى ودمتم سالمين والحمد لله رب العالمين.