وبالمقابل شنّت القوات التركية هجمات متتابعة بالطيران المسيّر والمدفعية على قوات "قسد" في تل رفعت ومنبج، ضمن رسائل الدولتين حول أولوياتهما المتباينة، بين المنطقتين. وبالمقابل هناك ما يشير إلى أن خطوات التلاقي بين البلدين، قد تتفعّل ببعض خطواتها المجمّدة، مما يدعونا إلى التساؤل، هل نحن أمام خيارات جديدة بين البلدين؟
أدّت تطورات الحرب في أوكرانيا دوراً مهماً في تسريع حسم الإدارة التركية لحساباتها في سوريا، وخاصةً بعد مشاهد الدبابات الأطلسية الأحدث المدمّرة في ساحات القتال، والتي تجاوزت نسبة الـ30% من مجمل الإمدادات للجيش الأوكراني، بما يوحي بمسار الحرب نحو هزيمة محقّقة لحلف الأطلسي.
كما أن الموقف العالمي بمجمله، بعد الاصطفاف الواضح للقوى الآسيوية والأفريقية والأميركية الجنوبية، مع روسيا في حربها، وفي مواجهة العقوبات الغربية الشديدة عليها، مما عزّز الموقف الروسي اقتصادياً وسياسياً، مقابل الدول الغربية التي تعيش هاجس الانكماش الاقتصادي.
أيضاً كان للموقف الروسي الحاسم، دور أساسي، بالدفع لإحداث اختراق في العلاقات السورية التركية، والدفع بالطرفين نحو مقاربات مختلفة، تتيح لهما تحقيق مصالحهما المشتركة، وخاصةً الرئيس بوتين، الذي يستثمر جيداً دور روسيا المتصاعد في النظام الدولي الجديد الذي أصبح في طور التحقّق.
فالقيادة الروسية تخوض الصراع مع حلف الناتو بدرجات متباينة، في غرب آسيا، وآسيا الوسطى بشكل أساسي، إضافة إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية، وهي تحتاج لبناء النظام الإقليمي الجديد في غرب آسيا الذي سيترتّب عليه إخراج الأميركيين من كامل المنطقة، والأمر صعب التحقيق، بغياب التلاقي السوري التركي.
هذا ما دفع إلى بذل أقصى الطاقات الدبلوماسية، من الطرفين، لتذليل العقبات بين رئيسي البلدين، كي يتم لقاؤهما في المرحلة المقبلة، معززاً بخطة عمل واضحة زمنياً، تضمن انسحاب قوات الاحتلال التركي من كامل مناطق الشمال السوري، ولحلّ مشكلات البلدين بما يحفظ مصالحهما وسيادتهما ضمن تصوّر للحل السياسي السوري الذي لم يتبلور بعد.
ولم تغب إيران عن المشهد التنسيقي مع روسيا، وهي صاحبة المصلحة الكبرى بهذا اللقاء، مما دفعها لإرسال معاون وزير خارجيتها علي أصغر حاجي إلى دمشق، للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، وهو المكلّف بتقريب مواقف البلدين، وتذليل العقبات بينهما، وهذا ما دفع بدمشق لتعديل شروطها التكتيكية، مع الحفاظ على الخط العام القاضي بانسحاب القوات التركية الكامل من المناطق التي احتلتها.
يساهم الموقف العربي المنفتح على تركيا، بشكل يعزّز بناء النظام الإقليمي الجديد، كنتيجة لتراجع الدور الأميركي في العالم عموماً، وفي منطقة غرب آسيا بشكل خاص، وفقدانه للثقة لدى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتجاوزهما للعداوات الشخصية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بدعمه اقتصادياً قبل الانتخابات، وبعدها.
وقد تجلّى ذلك أثناء زيارة الأمير محمد بن زايد إلى تركيا، وحاجة تركيا للاستثمارات الخليجية فيها، أو دعم الشركات التركية داخل دولها، كما سرَّبت وكالة بلومبرغ عن عقود لشركات المقاولات التركية في السعودية بقيمة 50 مليار دولار.
ومضافاً إليها الانفتاح العربي على سوريا التي أصبحت عبئاً على المحيط الإقليمي، خاصةً بعد تغيير الرؤى السياسية لدول الخليج (الفارسي)، القادرة بملاءتها المالية ومحوريتها في الاقتصاد العالمي، مما دفعها إلى إعادة بناء مصالحها وفقاً للمتغيّرات الدولية والإقليمية، بما أتاح لها تأدية دور إقليمي ودولي أوسع وأعمق من كل العقود الثمانية.
وهذا ما أتاح للسعودية والإمارات العربية أن تستلما زمام المبادرة تجاه سوريا، إن كان كعمق عربي، أم كحائط صدّ بريّ تشكّله مع العراق تجاه طرق النقل البري للجزيرة العربية نحو أوروبا وآسيا، وإعلاناتها مع تركيا لا يمكن أن تستقيم ببقاء سوريا محطّمة وفاقدة لأمنها وسيادتها.
وفي الطرف الآخر للمعادلة، وهو الجانب السوري، فإن دمشق تدرك يقينياً بأن علاقة الجوار مع تركيا محكومة لعوامل التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا، ولا يمكن تجاوزها، ولكن ليس على حساب أولويات السوريين بدايةً، وأن طبيعة الكوارث التي ترتّبت عن الدور التركي الأكبر في هذه الكارثة لا يمكن تجاوزها بسهولة.
فهي تحتاج لخطة زمنية طويلة، لتفكيك الألغام السياسية والعسكرية، لقوى ذات طابع إسلامي، في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي والغربي، وهي تراهن على أهمية الجغرافيا السورية، كأهم ورقة ضاغطة على كل الأطراف، للدفع بهم نحو القبول بشروطها، كي تتمّ ولادة النظام الإقليمي الجديد من بوابة التلاقي السوري التركي.
كل ذلك دفع بالقيادات الأمنية والسياسية التركية لحسم قرارها في الساحة السورية، والذهاب نحو تسريع الخطوات تجاه الحل مع سوريا، وفيها، ومع ذلك وبالرغم من توفّر كل العوامل السابقة لأجل النجاح فإن هذه العوامل قد لا تنتج جديداً في اجتماع أستانة الحالي.
فالرئيس إردوغان ما بعد الانتخابات، ليس هو قبل الانتخابات، فهو يعتبر نفسه منتصراً، فقد فاز بالانتخابات من دون حصول لقاء بروتوكولي مع الرئيس الأسد، ولم يعد معنياً باللقاء من دون شروط جديدة في الوقت الحالي.
ولكن من ناحية أُخرى تبقى خياراته محدودة، فلقاء المصالح، من منطلق رابح رابح، خير للجميع، دولاً وشعوباً، من النار التي أكلت السوريين والعراقيين والإيرانيين والأتراك، على مدى عقود طويلة من الزمن، ويبقى هناك أمل بحصول اختراق في هذه القمة، إذا طُرحت حطة زمنية لحل المعضلات بين البلدين، وبدء الانسحاب من طريق الـM4.
أحمد الدرزي - موقع "الميادين"