يؤشّر الحراك الأخير والتصريحات المتداولة من هنا وهناك بخصوص الوجود الأميركي في العراق إلى أن هناك استحقاقات لا بدّ من الالتزام والتقيّد بها، وهناك حقائق لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عنها والقفز عليها. وقبل هذا وذاك، هناك تراكمات سلبية كثيرة وأزمة ثقة بين العراق والولايات المتحدة الأميركية، من الصعب بمكان غض الطرف عنها، مهما كانت أجواء الحوارات والمباحثات ومجمل العلاقات تبدو إيجابية وطيبة وعلى ما يرام.
وبينما أدلى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قبيل زيارته لألمانيا في الحادي عشر من شهر كانون الثاني/ يناير الجاري بتصريحات أكد فيها عدم حاجة بلاده إلى قوات قتالية أجنبية، واقتصار الحاجة على التدريب والاستشارة، فإن وسائل إعلام غربية نقلت عنه تصريحات مختلفة تماماً عن ذلك.
فقد تحدّث السوداني بوضوح حول هذا الأمر في حوارات أجراها معه عدد من وسائل الإعلام الألمانية المهمة، مثل صحيفة "بيلد"، وشبكة DW التلفزيونية وغيرهما، إضافة إلى المؤتمرات الصحافية المشتركة التي عقدها مع كبار المسؤولين الألمان، وفي مقدمتهم المستشار أولاف شولتز.
بيد أنّ عدداً من الصحف الأميركية والبريطانية والغربية الواسعة الانتشار، من بينها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، نقلت عن السوداني وصفه للقوات الأميركية بـ "القوات الصديقة"، علماً أنّ هذا الوصف جاء في سياق كلام طويل عن دور قوات التحالف الدولي في العراق-ومن ضمنها القوات الألمانية-ومدى الحاجة إليها حالياً في محاربة الإرهاب، وقد فصّل السوداني في مجمل أحاديثه وتصريحاته بين القوات القتالية والقوات ذات المهام التدريبية والاستشارية.
وليس بعيداً عن أجواء وتفاعلات وسجالات ما وراء تصريحات السوداني، كان منسق البيت الأبيض لشؤون غرب اسيا وشمال أفريقيا "بريت ماكغورك" قد وصل إلى العراق في السادس عشر من الشهر الجاري، والتقى رئيس الوزراء العراقي، وعدداً آخر من الشخصيات السياسية في بغداد وأربيل.
وبحسب البيان الرسمي الصادر عن مكتب السوداني، "أكد السيد رئيس مجلس الوزراء توجّه الحكومة في فتح آفاق التعاون مع البلدان الصديقة والشقيقة، بما يؤمن مصالح الشعب العراقي، كما أكد قدرة قواتنا الأمنية مواجهة الإرهاب وتثبيت الاستقرار المتحقّق بفضل التضحيات الجسام التي قُدمت على أرض العراق". من جانبه أكد السيد ماكغورك "دعم بلاده لإنجاح الحكومة الحالية، واستمرار الولايات المتحدة في تقديم المشورة للقوات العراقية في قتالها ضد "داعش"، مجدّداً التزام الإدارة الأميركية باتفاقية الإطار الاستراتيجي، ودعم إصلاحات الحكومة العراقية في مجال الطاقة والبنية التحتية ومواجهة التغيرات المناخية، كما نقل السيد ماكغورك ترحيب بلاده بمخرجات مؤتمر بغداد/2، وجهود تنمية مشاريع البنى التحتية المشتركة بين العراق ومحيطه، وترحيبها بالزيارة المرتقبة لوزير الخارجية السيد فؤاد حسين إلى واشنطن لعقد اجتماعات اللجنة التنسيقية العليا لاتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين".
ورغم اللغة الدبلوماسية الرصينة التي صيغ بها بيان لقاء السوداني-ماكغورك، إلا أنه يمكن تلمّس وتشخيص النقاط الجوهرية فيه، والمتمثلة في:
- انفتاح العراق على جميع الأطراف بما يضمن ويكرّس مصالحه الوطنية ويعزز سيادته.
- قدرة القوات الأمنية والعسكرية العراقية على مواجهة الإرهاب وترسيخ الاستقرار.
- دعم الولايات المتحدة الأميركية للحكومة العراقية الحالية في خطواتها وإجراءاتها وسياساتها المتخذة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والخدمية والسياسية.
- الالتزام باتفاقية الإطار الاستراتيجي، والتعهد باستمرار واشنطن بمساعدة العراق في تدريب وتطوير قدرات قواته العسكرية، من دون الخوض في التفاصيل.
- تأكيد أهمية مواصلة المباحثات والحوارات بين الجانبين في إطار اللجان التنسيقية لتفعيل ما تم التوافق والاتفاق بشأنه في جولات الحوار السابقة.
ولعل ماهو مثير وموضع جدل، هو أن مجمل الانطباعات والتقييمات السياسية العراقية لماكغورك سلبية، ولا سيما أنه عيّن من قبل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وعرف بتدخلاته السافرة ومحاولاته الدائمة لفرض رؤاه وتصوّراته على الساسة العراقيين.
والشيء الآخر المثير للجدل، هو أن المنسّق الرئاسي الخاص للبنية التحتية العالمية وأمن الطاقة في الولايات المتحدة آموس هوكشتاين ذي الأصول اليهودية والقريب جداً من "إسرائيل" والمتعاطف معها، كان أحد أعضاء الوفد المرافق لماكغورك في زيارته الأخيرة للعراق، الأمر الذي أثار الكثير من اللغط في مختلف الأوساط والمحافل السياسية العراقية، ولا سيما أن السيرة السياسية والمهنية لهوكشتاين تؤشر إلى قدر كبير من توجّهاته ومواقفه ورؤاه الإيجابية الداعمة لتل أبيب، والسلبية حيال أعدائها وخصومها العرب والمسلمين.
قد لا يكون هذا الشخص هو من يرسم ويحدّد ويقرّر المواقف والسياسات والتوجهات، ولكنه من دون أدنى شك، يعد عنصراً رئيسياً وفاعلاً في صياغتها ورسمها وتوجيه مساراتها، ولم يخترْهُ ماكغورك عبثاً ليكون أحد أعضاء الوفد المرافق له إلى العراق.
وكما هو معتاد، كان للقيادات السياسية الكردية نصيب كبير من زيارة منسق البيت الأبيض للعراق، فقد عقد اجتماعات مطوّلة مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، ومع رئيس الإقليم نيجرفان البارزاني، ومع رئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني، ومع الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني بافل الطالباني، وشخصيات سياسية أخرى.
وبحسب أوساط مطلعة، فإن مباحثات الوفد الأميركي في أربيل تمحورت حول سبل معالجة الهجمات والاستهدافات التي يتعرّض لها الوجود الأميركي في الإقليم، ولا سيما قاعدة حرير العسكرية جنوب المدينة والمحاذية لمطار أربيل الدولي، وحول احتواء الخلافات الكردية-الكردية، بما يمنع انزلاق الأوضاع إلى مستويات خطيرة ومقلقة كما حصل في الماضي. والقضية الأخرى، تمثّلت في كيفية التعاطي مع وجود تشكيلات عسكرية مسلحة تنتمي إلى قوى تركية وإيرانية معارضة على أراضي إقليم كردستان العراق. وتمثّلت في البحث بما يمكن أن تقوم به واشنطن لحلحلة النقاط والملفات العالقة بين المركز والإقليم، خصوصاً ملف تصدير النفط من قبل الحكومة المحلية في أربيل، وحصة الإقليم في الموازنة المالية الاتحادية.
وفي مجمل اللقاءات والمباحثات التي أجراها منسق البيت الأبيض في بغداد وأربيل، كانت النقطة الجوهرية، هي-وإن لم يتم الإفصاح عنها بوضوح-ضمان عدم تعرض الوجود الأميركي إلى هجمات كالتي تعرّض لها في العام الماضي والأعوام التي سبقته، وبما يعني أن فكرة أن تحزم واشنطن كل حقائبها وتغادر العراق، مستبعدة، إن لم تكن غير واردة في الحسابات حتى الآن، وأقصى ما يمكن أن يتحقّق هو تعديل وتغيير العناوين والمسميّات والمواقع والمقار.
ووفقاً لإحصائيات صدرت مؤخراً، بلغ عدد الهجمات التي تعرّض لها الوجود الأميركي في العراق خلال العام الماضي، 102 هجوم، بالطائرات المسيّرة وصواريخ الكاتيوشا ومدافع الهاون والعبوات الناسفة، امتدت من جنوب محافظة صلاح الدين، مروراً بالأنبار وديالى وبغداد وبابل والديوانية والمثنى وصولاً إلى ذي قار. وبصرف النظر عن حجم الخسائر التي تكبّدتها الولايات المتحدة الأميركية من جراء تلك الهجمات، وبصرف النظر عن هوية الجهات المنفذة، فإن ذلك أشار إلى عدة أمور، من بينها، أن الولايات المتحدة، ما زالت موجودة وحاضرة في العراق، ليس في إطار العمل الدبلوماسي والسياسي أو حتى الاقتصادي والثقافي، وإنما في إطار العمل والفعل العسكري، رغم ادعاءاتها العام الماضي بإنهاء مهامها القتالية والاقتصار على المهام التدريبية والاستشارية التي تحدّد بالتوافق والتفاهم مع الحكومة العراقية، أي وفق ما تحتاجه وتطلبه الأخيرة.
والأمر الآخر يتمثّل في أن الموقف العراقي الرسمي والشعبي الرافض للوجود الأجنبي الأميركي وغير الأميركي، ما زال قائماً، بل ربما بات أكثر قوة ووضوحاً ورسوخاً.
وهنا تسعى واشنطن جاهدة من خلال إظهار الدعم والإسناد والتأييد للحكومة العراقية الجديدة برئاسة السوداني إلى تحييد الجماعات والفصائل المسلحة التي تتبنّى خيار المقاومة لإخراج الأميركيين من البلاد، مستفيدة من العلاقات الإيجابية للسوداني مع بعض أو معظم تلك الجماعات والفصائل، باعتباره مدعوماً من قوى الإطار التنسيقي، على عكس سلفه مصطفى الكاظمي، الذي كان متقاطعاً في مجمل سياساته وتوجّهاته مع فصائل المقاومة وقوى الإطار.
وبينما تعمل واشنطن على استكمال جولات الحوار الاستراتيجي مع بغداد، التي انطلقت منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي وتواصلت بزخم أكبر في عهد الكاظمي، ترى بعض الأطراف السياسية المعارضة للوجود الأميركي بكل أشكاله ومظاهره، أن جولات الحوار السابقة، لم تكن سوى مماطلة ومراوغة أميركية، ومن الخطأ التعويل عليها لاستعادة السيادة الوطنية الكاملة.
في الوقت ذاته، فإن تلك الأطراف، تصرّ على أن يكون ملف اغتيال الشهيدين أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني من قبل الأميركيين قبل أكثر من ثلاثة أعوام، حاضراً في أي حوار مع واشنطن، أياً كانت عناوينه ومستوياته. إلى جانب ذلك، فإن البعض يعتقد أن بقاء ارتهان مقاليد الاقتصاد العراقي لمصالح وحسابات الولايات المتحدة الأميركية، يعد عقبة كبيرة أخرى أمام بناء علاقة إيجابية متوازنة بين الطرفين. ويتساءل هذا البعض، ما فائدة أن يغادر العسكريون الأميركيون العراق بينما تبقى موارده المالية في قبضتهم وتحت سطوتهم وهيمنتهم؟. ويستشهد بملابسات وأسباب وخلفيات الارتفاع السريع والمفاجئ للدولار الأميركي خلال الشهور القلائل الماضية مقابل الدينار العراقي، وتأكيد برلمانيين وساسة وخبراء اقتصاديين وقوف الولايات المتحدة وراء ذلك الأمر. علماً أنها اتخذت مؤخراً إجراءات عقابية بحق عدد من المصارف الأهلية العراقية، تحت ذريعة قيام تلك المصارف بتهريب العملة الصعبة إلى دول وجهات وشخصيات مدرجة على القوائم السوداء لديها.
ولاشكّ أنه من الصعب جداً على السوداني أن يقدم على تقديم تنازلات لواشنطن، حتى لو أنه هو أراد ذلك واقتنع به، ومن الصعب عليه أيضاً ضمان التزام مجاميع وفصائل المقاومة المسلحة الصمت وعدم الذهاب إلى التصعيد مع واشنطن مجدّداً في حال بقيت الأمور على حالها، وكذلك من الصعب عليه أن ينجح في بلورة موقف جماعي متكامل ومنسجم لقوى الإطار يتيح له التفاوض المرن مع واشنطن، التي سيزورها بعد فترة وجيزة من الزمن.
خيار الانسحاب وإنهاء الوجود الأميركي بالكامل، وإعادة ترتيب العلاقات من جديد، يفترض أن يكون الأساس لأي حوار، مع إبقاء هامش صغير تحكمه بعض الواقعيات، ومن دون ذلك فإن أوراق المشهد العراقي ستتبعثر وتختلط أكثر مما تبعثرت واختلطت في أوقات سابقة، وهذا إن حصل-لا سمح الله-لن تقتصر آثاره وتأثيراته وانعكاساته على الجغرافيا العراقية فحسب. وواشنطن الغارقة في مشاكلها وأزماتها الداخلية والخارجية، ومعها حلفاؤها الأوربيون وأصدقاؤها الإقليميون، قد لا تحتاج إلى فتح جبهات جديدة والسقوط في مستنقعات عميقة وخطيرة.
عادل الجبوري