في أحلك أيام القمع العباسي، أنقذ الإمام الهادي (عليه السلام) المذهب الشيعي لآلاف السنين القادمة بوثيقة هوية. وهذا النص، المعروف اليوم باسم "الزيارة الجامعة الكبيرة"، ليس مجرد مرجع للقراءة والتأمل، بل هو مفتاح لفهم جوهر الإمامة والرابطة الأبدية بين العقل والقلب.
كيف استطاع هذا النص، في ظل نظام المتوكل الذي كان يكسر أقلام الكتاب الشيعة، أن يحافظ على المذهب الشيعي حيًا؟.
فالجواب يكمن في العمق المُتقن لهذا النص الإلهي.
هداية الناس في عصر العواصف السياسية
يمكن تسمية عصر الإمام الهادي (عليه السلام) بـ"عصر العواصف السياسية". فعندما ظن المتوكل العباسي، بهدمه قبور أهل البيت (عليهم السلام) وسجنه الإمام في سامراء، أنه سيقضي على المذهب الشيعي. لكن هذا الظلم لم يُثمر إلا تطهيرًا للعقول وترسيخًا لهوية الشيعة.
كما تقول الآية ١٠٤ من سورة آل عمران المباركة:
«وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».
فهذه الآية كانت مصداقا لرؤية الإمام بالنسبة للشيعة؛ المؤمنين الذين ميزوا نور الحق من الباطل في قلب الظلام.
ففي هذا الأجواء، صاغ الإمام الهادي (عليه السلام) "الزيارة الجامعة الكبيرة" بدقة استراتيجية. وكان هذا النص بمثابة خطة استشرافية للحفاظ على وجود الشيعة خلال الغيبة. وكما هو الحال مع الشخص الذي يصمم خطة هروب من حطام سفينة، قام الإمام الهادي (ع)، من خلال هذا النص، بتسجيل أدلة هوية للشيعة عبر العصور.
يكمن جوهر الأمر هنا في أن الإمام الهادي (عليه السلام) استخدم الوسائل الثقافية بدلًا من المعارك العسكرية رغم القيود الشديدة. فقد درّب نخبة من التلامذة وألّف نصوصًا كهذه "الزيارة الجامعة الكبيرة" ليتمكن العلم الشيعي من الانتشار خارج أسوار سامراء. وهذه الطريقة تُذكّرنا بحديث النبي الأكرم (ص) حيث يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"، أي أن العلم هو السلاح الأقوى ضد الظلم.
أصبحت هذه الوثيقة منبرًا لوضع حدود عقائدية في وجه البدع والضلالات. فعندما روّجت الحكومة للبدع لإضعاف الشيعة، أوضح الإمام الهادي (ع) موقف أهل البيت (عليهم السلام) في بيان دقيق يستند إلى القرآن والسنة. وأصبح هذا العمل منارةً تكشف، حتى يومنا هذا، أي تحريف في تعاليم الشيعة.
تعد "الزيارة الجامعة الكبيرة" نصًا يُفند أكاذيب أعداء الشيعة بمزيج من المنطق والعاطفة حيث نقرأ فيها: "«بِمُوالاتِكُمْ عَلَّمَنَا اللَّهُ مَعالِمَ دينِنا»".
هذه الجملة ليست مجرد عبارة بسيطة وعابرة، بل هي مفتاح فهم الدين من منظور الوصاية. ويُذكّرنا الإمام الهادي (ع) بأن الدين، بدون صلة بالأئمة (عليهم السلام)، ككتاب بلا دليل.
تقول الآية 44 من سورة الرعد المباركة:
«قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ».
تُؤكّد هذه الآية المكانة الاستراتيجية للأئمة (عليهم السلام) في هداية البشرية.
لكنّ الأمر المثير للمفاجأة هنا أن الإمام الهادي (عليه السلام) يجمع الحجج القوية بلغة المحبة.
ومفردة "بِموالاتكم" تُبيّن أن الهداية تبدأ من القلب. وهذا الأمر مثال حيّ على الآية التاسعة من سورة الحجرات المباركة:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»"؛ أي أن الإيمان رابطة فكرية وأخوة روحية.
عمليًا، أنقذت هذه الازدواجية، الشيعة من ضلال العقل وغضب العاطفة. فعندما يقرأ الشاب هذه الزيارة، لا يتعرف فقط على مفاهيم كالعصمة والوصاية، بل يتعلق قلبه أيضًا بمحبة أهل البيت (عليهم السلام). وهذا هو "الإيمان الكامل" الذي وصفه الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة:
«الْعَاقِلُ مَنْ جَمَعَ لِدُنْيَاهِ عِلْمَ مَا يُبَاقِيهِ»".
ومن خصائص هذا النص أيضًا مرونته عبر الزمن. ففي كل عصر، استفاد منه الشيعة بشكل مختلف، تبعًا لاحتياجات العصر. في أوقات الظلم، رأوا فيه وثيقة مقاومة. وفي أوقات الحرية، كان أداة لتعميق المعرفة. وهذا يدل على ذكاء الإمام في صياغة نصوص خالدة.
كيف سطرت "الزيارة الجامعة الكبيرة" فترة الانتظار؟
كان أحد أكبر مخاوف الإمام الهادي (عليه السلام) تهيئة الشيعة للغيبة. ففي "الزيارة الجامعة الكبيرة"، تُصوّر مفاهيم مثل "حجة الله في أرضه" و"وسيط الرحمة الإلهية" صورة الإمام المهدي (عج) كحضورٍ في غيابه. وتستمدّ هذه المفاهيم جذورها من الآية 55 من سورة المائدة المباركة:
«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...»".
وتُبيّن هذه الآية أنّ الولاية تتجاوز حدود الزمان والمكان.
في سامراء، حيث كان الإمام الهادي (عليه السلام) تحت المراقبة، مثّلت هذه الزيارة علاجًا روحيًا للشيعة. فبقرائتهم «أَنتُمْ أَئِمَّتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»"، شعروا أنهم ليسوا معزولين. وهذا درس من القرآن الكريم حيث يقول:
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ»".
فقوة الحقّ كامنة حتى في الضعف الظاهر.
كان دور "الزيارة الجامعة الكبيرة" خلال فترة الغيبة بناء قلب مجتمع متماسك. فعندما أنكر المسؤولون العباسيون وجود إمام الزمان (عج)، أكد الشيعة بقولهم: «لَيسَ لَكُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ إلَيْكُمْ»، أن الغيبة ليست قطعًا للروابط، بل هي اختبار للإيمان. ويستند هذا النهج إلى حديث الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول:
«الغَيْبَةُ حَتَّى تَنْسَوْا الذِّكْرَ».
أي أن الغيبة اختبارٌ للثبات على ذكر الله.
اليوم وفي عصرٍ تُثار فيه شكوكٌ جديدةٌ حول الإمامة، تعد "الزيارة الجامعة الكبيرة" معيارًا راسخا لإدراك الحق.
فكلُّ شابٍ شيعي يقرأ هذه الزيارة بتدبُّرٍ لن يُعزِّز فقط صلته القلبية بأهل البيت (عليهم السلام)، بل سيُزوِّد نفسه أيضًا بإطارٍ معرفي يُجيب على الشكوك.
وهذه هي الوظيفة نفسها التي يُشير إليها القرآن الكريم في وصفه: "هدىً للمتقين".