البث المباشر

احلى الكلام -۳٦

الأحد 20 يناير 2019 - 13:08 بتوقيت طهران

الحلقة 36

وكتب إليّ الصّديق الحميم أبو السّخاء اليعقوبيّ من مغتربه في مشرق الشّمس أن لمن هذا البيان الرّقيق:

وإذا تعرّض في المنام خيالها

نكأ الفؤاد خيالها المحلوم؟

قلت لحبيبي البعيد القريب أبي السّخاء (حفظه الله تعالى): ما سألت عنه بيت من غزل رقيق حقّاً لأبي سليمان محمّد بن بشير الشاعر الحجازيّ الفصيح، وهو من شعراء الدولة الأمويّة، وكان يبدو في أكثر زمانه، ويقيم في بوادي المدينة. فلا يكاد يحضر مع النّاس.
وقصيدته المشار إليها هنا في أمرأته البصريّة عائشة بنت يحيى بن يعمر العدوانيّة، وهي سيّدة موسرة قالت له حين أراد الرّجوع إلى بلده الحجاز: ما أنا بتاركه مالي ولا ضيعتي ها هنا تذهب وتضيع، وأمشي معك إلى بلد الجدب والفقر والضّيق، فطلّقها، وخرج إلى الحجاز، ثمّ ندم، وتذكّرها، فقال:

باتت لعينك عبرة وسجوم

وثوت بقلبك زفرة وهموم

طيف لزينب ما يزال مؤرّقي

بعد الهدوّ فما يكاد يريم

وإذا تعرّض في المنام خيالها

نكا الفؤاد خيالها المحلوم

أجعلت ذنبك ذنبه وظلمته

عند التّحكم والمدلّ ظلوم

ولئن تجنّيت الذّنوب فإنّه

ذو الدّاء يعذر والصّحيح يلوم

ولقد أردت الصّبر عنك فعاقني

علق بقلبي من هواك قديم

يبقى على حدث الزّمان وريبه

وعلى جفائك إنّه لكريم

واربته زمناً فماذ بحلمه

إنّ المحبّ على الحبيب حليم

وزعمت أنّك تبخلين وثفّه

شوق إليك وإن بخلت أليم

سألني الأخ عبد العزيز العطّار من الكاظميّة بدار السّلام بغداد أن من القائل، وفيمن كان قوله الجميل هذا:

يقولون لي: ما تحبّ الوصي

فقلت: الثّرى بفم الكاذب؟

قلت للأخ السيّد العّطار: هذا القول الجميل للحافظ الفاضل السّريع البديهة والحفظ الفصيح الشاعر الأديب الشّهير أبي الفضل أحمد المهذّب الدّين ابن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر المعروف بديع الزّمان الهمدانّي.
ولد في همدان غرب ايران في ثالث عشر جمادى الثانية سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، ونشأ بها، ثمّ انتقل الى هراة، وتوفّي فيها مسموماً سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة.
له الرسائل الفائقة، والمقامات الرّائقة التي ابتدعها في الأدب العربيّ، واقتفاه الحريريّ في مقاماته معترفاً في خطبته بفضله المبدع، وأنّه هو أرشده إلى هذا المنهج.
من آثاره ديوان شعره، ومقاماته، وأماليه، ومناظراته لأبي بكر الخوارزميّ ورسائله. وبيته المسئول عنه صدر ما بعده ، وهنّ:

يقولون لي: ما تحبّ الوصيّ

فقلت: الثرّى بفم الكاذب

أحبّ النّبيّ وآل النّبي

واختصّ آل أبي طالب

واعطي الصحابة حقّ الولا

وأجري على سنن الواجب

فإن كان نصباً ولاء الجميع

فإنّي كما زعموا ناصبي

وإن كان رفضاً ولاء الوصي

فلا برح الرّفض من جانبي

واتّفق أن كتب إليّ الأخ رشاد الحلو من البصرة ثغر العراق الباسم أن أذكر له أمثلة من رسائل بديع الزّمان الهمدانّي المتقدّم آنفا.
فقلت للأخ الحلو - دام عزيزاً -: من رسائل الهمدانيّ البديعة قوله: (الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه.
وكذلك الضّيف يسمج لقاؤه، إذا طال ثواؤه، ويثقل ظلّه، اذا انتهى محلّه. والسّلام).
ومن رسائله أيضاً هذا الجمال العذب، وهو من تعزية، ونصّه: الموت خطب قد عظم حتّى هان، ومسّ قد خشن، حتّى لان.
والدّنيا قد تنكّرت، حتّى صار الموت اخفّ خطوبها، وجنت، حتّى صار أصغر ذنوبها.

فتنظر يمنة، هل ترى إلاّ محنة؟

ثمّ انظر يسرة، هل ترى إلاّ حسرة؟

وبعث إلىّ الأخ منير المرتاض من حاضرة الشام دمشق أن من القائل:

ويكبرّون بأن قتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتّهليلا

قلت للأخ المرتاض: قائل هذا البيت هو أبو محمّد عبد السّلام بن رغبان الشاعر المشهور الملقّب ديك الجنّ الحمصيّ نسبة إلى مسقط رأسه سنة أحدى وستّين ومئة وتوفّي سنة خمس أو ستّ وثلاثين ومئتين، أيام المتوكّل العباسيّ عن بضع وسبعين سنة.
ولم يفارق الشام، ولا تكسّب بشعره الذي كان في غاية الجوده.
وكان شيعيّاً حسن الّتشيّع، وله مدح ورثاء لأهل البيت (عليهم السّلام) لم يجاره فيهما إلاّ السيّد الحميريّ.
امتاز شعره بمتانة السّبك، وسلامة اللغة، وانتقاء الفصيح، وتدفّق العاطفة.
وبيته المسئول عنه من أبيات في رثاء الحسين (عليه السّلام) وهي في غاية الشّهرة، وهذه صورتها:

جاؤا برأسك يا ابن بنت محمّد

مترمّلاً بدمائه ترميلا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا

في قتلك التّنزيل والتأويلا

ويكبّرون بأن قتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتّهليلا

ومن لطيف شعره العذب في التّظلّم ممّن يحبّ:

كيف الدّعاء على من جار أو ظلما

ومالكي ظالم في كلّ ما حكما

لا اخذ الله من أهوى بجفوته

عنّي ولا اقتصّ لي منه ولا ظلما

وقوله الأخير: ولا ظلما يعني ولا جزاه بظلمه لي.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة