نعرض في هذا المقال الآراء والتحليلات المقدّمة في فلسفة البكاء، ودراسة تلك التحليلات وتقويمها، ثم نقدّم الرؤية المناسبة لفلسفة البكاء التي تنسجم مع روح روايات البكاء، علماً أنّ محورية البحث في هذا المقال في إطار علل الحثّ على البكاء ومحاولة فهم حكمته.
تحليلات في فلسفة البكاء
إنّ تأكيد الروايات الواردة في إقامة مجالس العزاء والبكاء على مصاب الإمام الحسين عليه السلام لم ترد في أيّ من الأئمّة المعصومين عليهم السلام حتى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكأنّ هنالك سرّاً في هذه المسألة دعا إلى تلك التأكيدات من الأئمة عليهم السلام. وقد تحدثت الروايات عن عِظم ثواب هذه المجالس مما جعل بعضاً يراها نوعاً من المبالغة، فأنكرها ونسبها إلى ((الغلاة))، حتّى قالوا: ((لا بدّ أن يكون هناك تناسب بين العمل والجزاء، فكيف يكون لهذا العمل البسيط ـ كالبكاء على الإمام الحسين عليه السلام ـ مثل هذا الثواب العظيم؟!)).
وبالمقابل يرى آخرون: أنّ البكاء على الإمام الحسين عليه السلام ولو بقدر جناح ذبابة كافٍ في نجاة الفرد، وإن غرق في بحر الذنوب والمعاصي. فهذا الرأي يرى أنّ قطرة دمع تُذرف على الإمام الحسين عليه السلام كافية لأن تغسل كُلّ ذنب!
إن ّهذه الآراء ـ في تقديرنا ـ لم تنطلق من رؤية واضحة وتحليل صحيح جامع للروايات الواردة في عظم ثواب العزاء، والواقع أنّهم عجزوا عن إدراك فلسفة العزاء من خلال قراءة الروايات قراءة علميّة دقيقة. لذا سنقدّم فيما يلي عرضاً لبعض الرؤى في بيان فلسفة البكاء:
1ـ نيل الثواب وشفاعة أهل البيت عليهم السلام
في ضوء هذا التحليل فإن المسلمين يُقيمون مجالس العزاء من أجل الحصول على الثواب ونيل شفاعة الأئمّة الأطهار عليهم السلام. وضعف هذا التحليل واضح؛ ففرض الثواب على عمل ما فرع وجود حكمة ومصلحة في نفس ذلك العمل، فالعمل لا يستبطننّ أيّ ثواب ما لم تكن فيه مصلحة وحكمة معقولة. والذي ننشده في هذا البحث فلسفة إقامة العزاء، أي: مصلحة العمل وحكمته. طبعاً الكلام عن الثواب في إطار معلولات الحكم، لا محلّ له في هذا المجال.
أضفْ إلى ذلك: هل يمكن إثارة عواطف ملايين الأفراد وإبكائهم طيلة التاريخ لغرض تحصيل الثواب؟! ثم هل يسع هذا الوعد ـ على الرغم من أهميته ـ إثارة العواطف ما لم يكن هنالك عشق وقلب مُفعم بالحُبِّ والحماس؟![2].
2ـ شُكر الإمام الحسين عليه السلام
يستند هذا التحليل إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام ضحّى بنفسه لتُغفر ذنوب الأُمّة، فالإمام أبو عبد الله عليه السلام كفّارة معاصي الأُمّة، نظير الاعتقاد الباطل لدى المسيحيين بأنّ المسيح عليه السلام صُلِب ليطهرهم من ذنوبهم. فالقائلون بهذا التحليل تمسَّكوا ببعض العبارات من قبيل: يا باب نجاة الأُمّة ليخلصوا إلى أنّ الحسين عليه السلام بنيله الشهادة كان سبباً في غفران ذنوب فسقة الأُمّة، وبالتالي فهو سبب لنجاتهم. وبالمقابل فإن الأُمّة بإقامتها مجالس العزاء إنّما تشكر الإمام عليه السلام وتستحقّ بذلك النجاة.
وبعبارة أُخرى: إنّما قُتل الإمام عليه السلام وصَحبه ليكون الآخرون أحراراً في مقارفة ما شاءوا من الذنوب والمعاصي، وكأنّ التكليف ساقط عنهم.
هذا التفكير جعل بعضاً يعتقد بأنّ النجاة عاقبة كُلّ مَن بكى على الإمام الحسين عليه السلام مهما غرق في الذنوب. وقد ترسّخت هذه الفكرة الخاطئة حتى اخترقت أوساط السلاطين والجبابرة الظلمة الذين أرسوا دعائم حكوماتهم على أساس الظلم والجور وتلطّخت أيديهم بدماء الأبرياء، فأخذوا يُقيمون مجالس العزاء، أو ينخرطون في هيئات العزاء يلطمون صدورهم؛ ليعتبروا ذلك من سُبل النجاة!
وبالطبع، لا يستطيع أحدٌ إنكار الشفاعة، لكنّها تخضع لضوابط وشروط. كما أنّ هذا التحليل لا ينسجم مع مبادئ الدين وأُصوله المسلَّمة.
3ـ الحُسن الذاتي للبكاء
زعم بعضٌ ـ في ضوء الآثار الإيجابيّة البدنية والنفسية للبكاء ودوره في تنقية روح الإنسان ـ أنّ الحُسن الذاتي للبكاء هو سرّ تأكيد الأئمة عليهم السلام على إقامة مراسم العزاء؛ ذلك لأنّ إظهار التأثّر بواسطة البكاء من ملامح طبيعة الإنسان وتوازنه العاطفي. فالأشخاص الذين يبكون قليلاً ولا يستطيعون التنفيس عن عُقدهم الباطنية وتبديد همومهم وأحزانهم عن هذا الطريق لا يتمتعون عادة بسلامة نفسية وبدنية متوازنة.
ومن هنا؛ يعتقد علماء النفس: ((أنّ النساء أقل عُقداً من الرجال بسبب سرعة تنفيسهن عن الضغوط النفسية بواسطة البكاء، وهذه إحدى أسرار سلامتهن))[3]. كما يرون أنّ البكاء يحدّ من الضغوط الناشئة من العُقد المتراكمة في باطن الإنسان، وهو علاج لأكثر آلامه ومعاناته الباطنية. فدمع العين بمثابة صمّام الأمان الذي يؤدّي إلى الاتزان الروحي للإنسان في الظروف الطارئة.
ويعتقد هؤلاء أنّ الحُسن الذاتي للبكاء هو السبب في بكاء يعقوب عليه السلام لسنوات على فراق ولده، كما بكى رسول الله صلى الله عليه وآله بشدّة على فقد ولده إبراهيم [4] والصحابي الجليل عثمان بن مظعون [5]، كما بكى حين قُتِل جمع من أصحابه، وكذلك في شهادة عمه الحمزة وحثّ نساء المدينة على البكاء على حمزة [6]، وهذا ما جعل الزهراء عليها السلام تبكي رسول الله صلى الله عليه وآله ليلاً ونهاراً[7]، والإمام زين العابدين عليه السلام بكى سنوات على أبيه الحسين عليه السلام[8].
إنّ آثار البكاء الإيجابيّة في تنقية روح الإنسان وتكامله ممّا لا يمكن إنكاره، إلّا أن هذا التحليل لا يسعه أن يكون سرّ كلّ هذا التأكيد من الأئمة عليهم السلام في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام وذلك الثواب العظيم. ويُدرك كلّ مَن تأمّل الروايات أنّ هناك هدفاً آخر وراء حثّ أهل البيت على البكاء.
نعم، لا ننكر وجود هذه الآثار الإيجابية في البكاء، إلّا أن بحثنا هنا في سرّ تأكيد الأئمة على البكاء وفلسفته.
التحليل الصحيح لفلسفة البكاء
بعد أن عرفنا أنّ ما طُرح من تحليل لفلسفة البكاء على أبي الأحرار عليه السلام لا يرتقي إلى مستوى الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، نُشير هنا إلى التحليلات التي نراها صحيحة ومنطقية في موضوع فلسفة العزاء ضمن أربعة محاور:
1ـ الثناء على جهاد الإمام عليه السلام وتعظيم الشعائر
إنّ العزاء على شخصٍ نوع من التعظيم والتكريم، ورعاية لموقعه وشخصيته. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: ((ميّتٌ لا بواكي عليه لا إعزاز له))[9]، ولا سيمّا العزاء على أولياء الله الذي يُعدّ من المصاديق البارزة لتعظيم شعائر الله والثناء على عقيدتهم وتكريم نهجهم وجهادهم.
ومن هنا؛ حين رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من معركة أُحد ورأى قبيلتي بني الأشهل وبني الظفر تبكيان شهداءهما ولا بواكي لعمه حمزة، قال: ((لكنَّ حمزة لا بواكي له اليوم))[10]. فلما سمعت نسوة المدينة اجتمعن في دار حمزة وأخذن يندبنه ويُقمن العزاء عليه. وحين أُبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله بشهادة جعفر الطيار في مؤتة ذهب إلى بيت جعفر، ثم الزهراء عليها السلام، فرآها باكية، فقال: ((على مِثل جعفر فلتبك البواكي))[11].
ويعبّر القرآن الكريم عن تلك الطائفة من قوم موسى الذين سلكوا سبيل الغي والضلال: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾[12]. ويفهم من هذه العبارة أنّ عدم استحقاق بكاء الآخرين نوع من التحقير والتوهين. وعلى هذا الأساس نفهم وصية الأئمة حين قالوا: ((خالطوا الناس مخالطةً إن متّم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم))[13].
فإقامة مراسم العزاء على الإمام الحسين عليه السلام ـ تلك الشخصية الفذّة والفريدة من أهل بيت العصمة والطهارة ـ لمِن المصاديق البارزة لتعظيم شعائر الله، مضافاً إلى تخليد المقام الرفيع لذلك الإمام الهمام: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [14].
وكيف لا يكون كذلك والصفا والمروة من شعائر الله؟! مع أنّها ليست أكثر من مكان، لكنها عامرة بطاعة الله: ﴿ نَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ﴾[15].
إنّ الإمام الحسين عليه السلام الذي تعامل مع الله بكُلّ كيانه وأقبل نحو الشهادة بجميع أهل بيته ليقدّم تلك القرابين في سبيل الله لمن أعظم شعائر الله، وإقامة مجالس العزاء عليه إنّما تُعتبر تعظيماً لإحدى أعظم شعائر الله.
2ـ حفظ مدرسة أهل البيت عليهم السلام
يعترف العدو والصديق بأن مجالس العزاء على الإمام الحسين عليه السلام أعظم قوّة تقف وراء يقظة الناس، والنهج الذي حدَّده الإمام لأتباعه هو الضامن لبقاء الإسلام وديمومته.
إنّ أهمّية إقامة هذه المجالس وسرّ تأكيد الأئمّة الأطهار عليهم السلام على حفظها تبدو أوضح حين نلاحظ وضع الشيعة في عصر صدور هذه الروايات؛ إذ كانوا يعيشون عزلة خانقة وضغوطاً شديدة تمارسها ضدهم الحكومات الأُموية والعباسية، ويتعذّر عليهم ممارسة أدنى نشاط سياسي واجتماعي ممّا أدّى إلى ضعفهم الشديد، لكن مجالس العزاء الحسينية أنقذتهم وخلقت لديهم حالة من الانسجام والوئام، وجعلتهم قوة ذات شوكة في المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس عبّرت بعض الروايات عن إقامة هذه المجالس بإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام. قال الإمام الصادق عليه السلام في هذه المجالس: ((إنّ تلك المجالسأُحبها فأحيوا أمرنا)) [16].
وقال السيّد الخميني بشأن هذه المجالس في عبارة جامعة: ((وينبغي أن نُدرك جميعاً أنّ ما يوجب الوحدة بين المسلمين هذه المراسم السياسيّة، ومراسم العزاء على الأئمّة الأطهار عليهم السلامهي التي حفظت هوية المسلمين ولا سيما الشيعة الإمامية)) [17].
اعتراف غير المسلمين
ذكر الكاتب الفرنسي جوزيف في كتابه الإسلام والمسلمون في حديثه عن قلّة عدد الشيعة في العهود الإسلاميّة الأُولى، وبسبب عدم تسلّمهم الحكم، وتعرضهم لظلم الحكَّام وجورهم وتقتيلهم ونهب أموالهم، فقال: ((إنّ أحد أئمة الشيعة أوصاهم بالتقية لحفظهم من الأعداء، فأدّى ذلك إلى اقتدار الشيعة بشكل تدريجي، ولم يجد العدو ما يتذرّع به لقتلهم وسلب أموالهم، وأخذ الشيعة يعقدونالمجالس في الخفاء ويبكون على الحسين عليه السلام. وأكبر عنصر يقف وراء تقدمهم هو إقامة مجالس العزاء على الحسين عليه السلام، وهذه العاطفة والتوجّه القلبي استحكمت في قلوبالشيعة وزادت بشكل تدريجي، فكان كُلّ شيعي في الواقع يدعو الآخرين إلى مذهبه دون التفات سائر المسلمين، بل لعل الشيعة أنفسهم لم يلتفتوا إلى فائدة هذا العمل، وكانوا يظنون أنهمإنّما يحصلون على الثواب الأُخروي )) [18].
ويقول المؤرخ الألماني ماربين في كتابه السياسة الإسلاميّة: ((إنّي أعتقد أنّ سرّ تطوّر الإسلام وتكامل المسلمين يكمن في شهادة الإمام الحسين عليه السلام وتلك الحوادث الأليمة))[19].
3ـ تعبئة المسلمين
إنّ الأئمة الأطهار عليهم السلام بتأكيدهم على إقامة مراسم العزاء إنّما جعلوا نهضة الإمام الحسين عليه السلام محوراً لوحدة النّاس، بحيث يجتمع اليوم أيّام شهادته ملايين الأفراد على اختلاف مستوياتهم وأعراقهم وأديانهم؛ ليشاركوا في مراسم العزاء ويلتفّوا حول الراية الحسينية. وكُلّ أُمة بحاجة لعنصر الوحدة، بغية ديمومتها وموفقيتها.
وممّا لا شك فيه أنّ أفضل عنصر لوحدة أتباع أهل البيت عليه السلام هو هذه المراسم الحسينية؛ لأنها تستقطب التجمّعات المليونية حول محور معيّن بأقل ما يمكن. حقّاً لو تمتّعت أُمّة بمثل هذه القوّة التي يُمكنها حشد طاقاتها المتفرقة وتوجيهها في مُدّة زمنية قياسية وشيء من الإعلام لاستطاعت القضاء على أيّة عقبة تعترض سبيل رقيّها وتقدّمها.
والحقّ أنّ الأئمة عليهم السلام إنّما حالوا ـ بحثّهم الناس على إقامة هذه المراسم ـ دون تشتّت تلك الطاقات، وعبّأوا الجموع المتفرقة وخلقوا منهم قوّة مقتدرة من خلال إيجاد الوحدة والانسجام، والحركة العفوية للجماهير أيام شهرَيْ محرم وصفر ـ ولا سيما عاشوراء التي تهزّ عروش الطغاة ـ إنّما تكشف النقاب عن سرّ تأكيدات الأئمّة في محورية النهضة الحسينية.
ولعلّنا لم نكن نقف على سرّ تأكيد الأئمة عليهم السلام على إقامة هذه المجالس لو لم نشهد تفجير تلك الطاقات الكامنة في هذه المجالس. قال المؤرخ الألماني ماربين: ((إنّ جهل بعض مؤرخينا جعلهمينسبون الشيعة للجنون، وهذه مجرّد تُهمٍ، فإننا لم نشاهد بين الشعوب قوماً كالشيعة؛ حيث سلكوا بواسطة مجالس العزاء سياسة عقلائية أنتجت نهضات دينيّة مثمرة)) [20].
وقال المؤرخ نفسه: ((ليس هنالك ما يوازي مراسم العزاء الحسيني في خلق هذا الوعي السياسي لدى المسلمين))[21].
والشاهد الآخر على مدى خشية الحكومات من هذه القوة العظيمة معارضة خصوم الإسلام لإقامة هذه المجالس وسعيهم لإيقافها، حتى أقداموا على هدم قبر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا من زيارته[22].
ولا يخفى الرعب الذي يعيشه أعداء الدين من إقامة هذه المجالس ـ اليوم ـ حتى بذلوا قُصارى جهدهم من خلال كيل التُّهم الشنيعة بواسطة عملائهم أحياناً، وأُخرى عن طريق إثارة الطواغيت السائرين في فلكهم، كما سعوا لإفراغ هذه المجالس من محتواها بغية القضاء على الشعائر الحسينية، وإنّنا لنلمس من خلال نظرة عابرة لتاريخ الإسلام بعد حادثة كربلاء كيف غدت هذه المجالس والشعارات الحسينية أُسوة لنهضات المجاهدين في سبيل الله ومواجهة الطواغيت والظلمة. ولعلّنا نتساءل هنا: لو انفتح جميع المسلمين على هذه المجالس كما ينبغي، وطهّروا أوساطهم ممّا عَلِقَ بها من فساد ودَنَسٍ ـ بوسيلة هذا العنصر القوي ـ فهل يتمكّن الظلمة من الهيمنة على البلاد الإسلاميّة؟ وهل باستطاعة الناهبين التطاول على ثروات البلدان الإسلاميّة لو فُعِّلت هذه المجالس ومبادئ النهضة الحسيّنية؟
4ـ التَّزكية والتهذيب الاقتداء
تُعدّ مجالس العزاء على الإمام الحسين عليه السلام مجالس التحوّل الروحي، ومراكز تزكية النفس وتهذيبها، فالنّاس يقتدون بالإمام الحسين عليه السلام ببكائهم على مظلوميّته في هذه المجالس، فهم يخلقون الأرضية الخصبة لديهم في محاكاة سيرته العلميّة، والتأثير الذي تخلّفه هذه المجالس يُحدث تحوّلاً حقيقياً وعزماً على ترك الذنب والمعصية؛ إذ يوجد عدد من الأفراد قد عزموا على ترك الذنوب والمعاصي. وربّما تنبّه بعض الضالين إثر حضورهم تلك المجالس فعادوا إلى أنفسهم وساروا على الدرب. فهذه المجالس تُعلّم الإنسان دروس العزّة والكرامة والإيثار والتّضحية ودروس الأخلاق والورع والتقوى؛ وبالتالي فهي مصنع الأبطال وعشاق الحق والعدالة.
أضف إلى ذلك أنّ هذه المجالس هي في الواقع مدارس تتعرّف الجماهير من خلالها على المعارف والحقائق الدينيّة والتاريخ والأحكام ومختلف الموضوعات، وتُعدّ واحدة من أنجح مراكز التزكية والتهذيب والتربية.
قال المؤرخ الألماني ماربين بهذا الشأن: ((إنّ المسلمين لن يعيشوا الذلة ما دامت لديهم هذه المجالس التي يتعلّمون فيها دروس الشجاعة والتضحية، ومن خلال هذا الطريق يتعلّم الشيعة درسالشجاعة والبطولة))[23].
وفتح الأئمة الأطهار عليهم السلام لهذا الباب وحثّ الناس عليه هو ـ في الواقع ـ دعوة إلى التربية والتعليم في هذه الجامعة الحسينية.
وقال المرحوم الفيض الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء ـ في توضيحه لحديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ((عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة)) ـ: ((إنّ ذكر الصالحين وسجاياهم الأخلاقية تجعل الآخرين يتأسّون بهم فيستحقون نزول رحمة الله))[24].
وروى ثقة الإسلام الكُليني وشيخ الطائفة الطوسي: أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: ((قال لي أبي: يا جعفر، أوقف من مالي كذا وكذا للنوادب تندبني عشر سنين بمِنى أيام مِنى))[25].
ولصاحب الجواهر في كتاب الطهارة كلام في بيان حكمة هذه الوصية وفلسفتها؛ إذ قال: ((وقد يُستفاد منه استحباب ذلك، إذا كان المندوب ذا صفاتٍ تستحقّ النّشر ليُتقدى بها))[26].
وعليه فتخليد ذكراهم فعل حَسن وعمل مطلوب.
********
الكاتب: د.الشيخ مهدي رستم نجاد
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثامن
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[1] الكاتب ، أُستاذ، وعضو الهيئة العلمية في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله العالمية.
[2] للوقوف على المزيد راجع كتاب حماسه حسيني بالفارسية، الملحمة الحسينية للشهيد الشيخ المطهري رحمه الله: ج1، الفصل الثاني عوامل التحريف.
[3] وگومولتز، ويكتور، صد وبنجاه سال بمانيد بالفارسية ترجمة علي محمد: ص134.
[4] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب الجنائز: ح1277. الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج3، ص262.
[5] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص495. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج79، ص91. أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج6، ص43.
[6] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج2، ص70. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج2، ص210.
[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص155 ـ 175.
[8] المصدر السابق: ج44، ص284.
[9] الكاشي، عبد الوهاب، مأساة الحسين عليه السلام: ص118.
[10] ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج1، ص275.
[11] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج22، ص276.
[12] الدخان: آية29.
[13] نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة10.
[14] الحج: آية 32.
[15] البقرة: آية 158.
[16] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج10، ص391 ـ 393، ح2.
[17] الخميني، روح الله، وصية الإمام الخميني الإلهية السياسيّة، صحيفة النور: ج21، ص173.
[18] شرف الدين، عبد الحسين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص92.
[19] المصدر السابق: ص109.
[20] شرف الدين، عبد الحسين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص109.
[21] نقلاً عن السياسة الحسينية للشيخ كاشف الغطاء: ص44. الطريف أنّه نُشِر مؤخراً كتاب في أمريكا يحمل عنوان خطة لعزل المذاهب الدينيّة تضمّن حواراً مفصّلاً مع الدكتور مايكل برانت أحد المساعدين السابقين في وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكية، أشار فيه إلى خُطّة تستهدف الشيعة ومذهبهم، كما ورد في هذا الحوار إشارة إلى الجلسات السرّية لزعماء الوكالة ورئيس جهاز الاستخبارات البريطاني، فقال: «لقد توصّلنا إلى أنّ انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانية لا يُعزى إلى السياسات الخاطئة التي اتخذها الشاه حيال الثورة، بل هنالك عوامل أُخرى مثل التأثر بثقافة الشهادة التي ظهرت قُبيل ألف وأربعمائة سنة من قِبَل سبط نبي الإسلام الإمام الحسين، وتتسع وتترسخ هذه الثقافة سنويّاً أيّام محرم من خلال إقامة مراسم العزاء». ثم أضاف: «عزمنا على تحريف هذه الثقافة وعقائد الشيعة من خلال توفير الدعم المالي لبعض الخطباء والرواديد والقائمين على رعاية هذه المراسم» صحيفة الجمهورية الإسلاميّة: العدد 7203 5/3/83هـ. ش، المصادف 26/7/2004، ص16 مع الاختصار.
[22] اُنظر: القمّي، عبّاس، تتمة المنتهى: ص237 ـ 324.
[23] عبد الحسين شرف الدين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص109.
[24] الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء: ج4، ص17.
[25] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص117. الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص358.
[26] الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج4، ص366.