وانفتح على أبعاد رسول الله (ص)، حتى عاشه عقلاً في عقله، وقلباً في قلبه، وحركة في حركته كلّها، سواء في الدّعوة أو الجهاد أو حركيّة الواقع. وعاش الإسلام في فكره، حتى أصبح فكره فكر الإسلام. فلم يكن لعليّ (ع) فكر آخر، بل إنه عندما تعلّم الإسلام من رسول الله (ص)، حرّك هذا العلم في امتداد مواقع المعرفة الإنسانيّة فيما يراد للإنسان أن يعيشه في خطّ الإسلام، وفي تنوّعات حياته وتطوّراتها وامتداداتها: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كلّ باب ألف باب". فلم يكن علمه مجرّد نصّ ينقله، ولكنه كان حركيّة يبدع منها كلّ جديد، من دون أن ينفصل عنها في قريب أو بعيد.
وكان عليّ (ع) إنسان الإنسان كلّه، فكان منفتحاً على الإنسان، سواء الذي يلتزم الإسلام ديناً أو الذي لا يلتزمه: "فإنهم صنفان؛ إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق". فعليّ لا يريدنا أن ننغلق على أيّ إنسان حتى لو كان يختلف معنا، لأنّ الانفتاح على الإنسان في إنسانيّته، قد يجعلك تفتح عقله على الإسلام بطريقة وبأخرى، وتفتح قلبه على نبضات الإسلام الإنسانيّة.
تجربته مع النبيّ (ص)
وعاش عليّ (ع) تجربةً من أقسى التّجارب، فقد كان ملازماً لرسول الله (ص): وكان الرّسول يضمّه في شبابه كما يضمّه في طفولته، وكان يتحسّس نبضات قلب رسول الله (ص) في قلبه ومشاعره، وبذلك كان يفهم معنى أنّه نفس رسول الله وأخوه.
وكان رسول الله (ص) يعرف معنى عليّ (ع) في شخصيّة علي، ولذلك أراد للناس، لا من خلال عاطفة قرابة، ولا من خلال علاقة مصاهرة، أن يكون عليّ مولاهم في حركة المسؤوليّة، كما هو ـ أي الرسول ـ مولاهم في تلك الحركة: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي"، و"من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"، لأنّ الولاية في خطّ رسول الله (ص) في النبوّة الحركيّة، هي خطّ عليّ (ع) في الولاية الحركيّة، لأن الولاية لم تنفصل عن النبوّة في الخطّ، وإن انفصلت عنها في الدّور.
عليّ (ع) وحيداً
وعاش علي(ع) بعد ذلك تجربة من أقسى التّجارب، فكان يشعر بأنّه وحده، يفكر وحده، ويتألم وحده، ويواجه التحدّيات وحده.. وكان يشعر بأن محلّه محلّ القطب من الرّحى، وليس للرّحى سوى قطب واحد. ينحدر عنه السّيل، لأنّه في القمة، ولا يرقى له الطّير، لأن قمته لا يقترب منها أحد. وكان يشعر بعلمه الفيّاض الذي لم يجد من ينتفع به، وكان يتألم لذلك: "إنّ ها هنا لعلماً جمّاً لو وجدت له حملة". ولم يكن يبحث عن الحملة لأجل أن يعطي علمه عنفواناً، ولكنّه أراد الحملة حتى يعطي علمه امتداده.
لذلك، عاش عليّ (ع) غريباً في قومه، فمشكلة عليّ (ع) أنّه عاش في مجتمع لم يفهمه جيّداً: "فيالله وللشّورى، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النّظائر، لكنّني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إن طاروا". ولقد عاش التجربة الصّعبة كأقسى ما تكون، ولم يكن يبحث عن نفسه فيما كان يريده من الولاية، ولكنّه كان يبحث عن الإسلام. ولذلك، كانت مشكلته أنّه كان يرى أن الإسلام يضيع وينحرف، وربما رأى في حركة الإسلام آنذاك حركة قوّة امتدّ بها الإسلام في العالم، ولكنّه كان يبحث عن امتداد الإسلام في وعي الإنسان في العمق، وكانت طبيعة المرحلة في عهد رسول الله (ص) هي أن يمتدّ الإسلام في النّاس: "من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حقن بها ماله ودمه وعرضه". {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَ?كِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات؛ 14]. وكانت الخطّة في عهد النبيّ (ص) أن يحيد الناس عن الشّرك، ليدخلهم في المجتمع حتى يتنفّسوا الإسلام ولو بعد حين.
رسالة عليّ (ع):
وكانت رسالة عليّ (ع) أن يعمّق الإسلام في نفس الإنسان، وأن يعمّق فكر الإنسان في فكر الإسلام، وأن يعمّق قلب الإنسان وحركيّته، وأن يضع إسلاماً يتجسّد في النّاس، وهو الذي كان يتحسّس المسؤوليّة خارج الخلافة كما يتحسّسها في داخلها، لذلك قال: "حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه".
وعندما واجه التحدّيات في زمن خلافته، كان يتحدث مع الناس المختلفة نفوسهم، المشتّتة مواقعهم، أنه لا يستطيع أن يُقوّم بهم اعوجاج الحقّ، وكان يكلّم ربّه: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كانا منّا ـ فيما نريده من تسلّم المسؤوليّة ـ منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللّهمّ إني أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله بالصّلاة".
وقد أراد أن يشكو إلى ربّه من خلال ما يقدّمه بين يديه مما كان يعيشه في معنى دور الخلافة والإمامة، وكأنّه يقول: يا ربّ، أنت تعلم أني أوّل من أناب إليك، وأول من صلّى مع رسول الله (ص)، وأوّل من سمع الوحي والدّعوة. ولكنّ المشكلة هي أنّ القوم لم يفهموا ما معنى الأوّل، فلم يكن عليّ الأوّل في الزّمن، ولكنّه كان الأوّل في وعي رعاية الإسلام كلّه.
لماذا عليّ (ع) دون غيره؟!
كان عليّ (ع) حقّاً كلّه، وعندما تجلس إلى عليّ (ع) في فكره ومشاعره وأحاسيسه وأخلاقيته وسيرته وابتهالاته بين يدي الله، فإنّك تشعر به الإنسان العاشق لله عشقاً لا يقف عند حدّ: "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟!". إنّ العاشق يتألم ويتألم في كلّ ما يحيط به، ولكنّه لا يتحمّل أن يفارق معشوقه.
"وهبني، يا إلهي، صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!"، وأنا أعيش في كلّ يوم ألطافاً شتّى من كرامتك، فأحسّ ببردها وإشراقها في عقلي واستقامتها في حياتي.
وعندما تتأمّل عليّاً (ع)، وتخرجه من كلّ هذا الجدل الذي يدور من دون معنى، فإنك سوف ترى أن عليّاً (ع) لا يقارن بأحد بعد رسول الله (ص)، وحرام أن يوضع إلى جنب عليّ (ع) أيّ شخص في موقع التفاضل، ولا نقول ذلك عاطفةً ولا حبّاً ولا عصبية، ولكنّنا نقولها حقيقة لا تشوبها شائبة، لأنّك لا تجد في المسلمين كلّهم من تمثّل الإسلام كلّه فيه، إن في عقله أو في قلبه أو جهاده أو روحانيّته او تواضعه، وكلّ ما يرتبط بالإسلام من قريب أو بعيد، كما تمثّل بعليّ (ع)، وليس هناك من يقترب من عليّ (ع) فضلاً عن أن يساويه.
وقد قلت في حديث سابق: لماذا عليّ (ع) دون غيره؟ وقلت إنني أفهم ذلك بالطريقة التالية: فالنبيّ (ص) لم يستكمل في مرحلته التي عاشها بعد الرّسالة تنفيذ برنامجه في الدّعوة وامتداد الإسلام وتعميقه في نفوس النّاس، لأنّ الحروب شغلت برنامجه عن أن يتحرّك، ولأنّ المشاكل الداخليّة في المدينة من خلال المنافقين واليهود، بعد المشاكل الصّعبة في مكّة، أخذت عليه الكثير مما كان يريد أن ينفّذه.
فما هو الدّور المناط بعليّ إذاً؟ إنه يفرض أن يأتي شخص يعيش رسول الله (ص) بكلّه في معنى الإسلام في شخصيّة رسول الله (ص) في العقيدة والعاطفة والحياة، ويفرض أيضاً أن يكون هناك شخص في مستوى القاعدة، وليس سوى عليّ من هو مؤهّل لذلك، فهو الذي يمكن أن يجيب عن كلّ سؤال، ويخطّط لكلّ مرحلة، ويفتح أكثر من أفق، وهذا ما عشناه من خلال بعض ما وصلنا من تراث عليّ (ع)، ولم يصلنا إلا القليل، لأن ما نعتب به على الشّريف الرّضيّ (رض)، مع كلّ شكرنا له، أنه كان يستهدف الأسلوب الأدبي في (نهج البلاغة)، ولم يستهدف المسألة الثقافية المتنوّعة في النهج، لذلك اختصر الكثير من الخطب والكلمات، وكان يريد أن ينهج نهج البلاغة، فيما كانت الأمّة بحاجة إلى أن ينهج ثقافة عليّ (ع) كلّها، لأنه حرام أن تضيع كلمة من كلمات عليّ (ع)، ذلك لأنّ كلّ كلمة كانت تحمل فكرة وتشير إلى خطّ وإلى درب.
كان عليّ (ع) حقّاً كلّه، وهذا ما قاله رسول الله (ص): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار". وكانت مأساة عليّ (ع) هي هذه الحقانيّة: "قد يرى الحُوّل القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين ـ لأنها تمثّل الحيلة في خطّ الباطل ـ بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين". وهو القائل: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس". وكان يتحدّث عن أنّ الوفاء توأم الصّدق، فلا يمكن أن تكون صادقاً وغادراً في الوقت نفسه، فإذا كنت صادقاً، فلا بدّ أن تكون وفيّاً.
بعض كلماته (ع) في الحقّ
ولو درسنا ـ أيّها الأحبّة ـ كلمات عليّ (ع)، لرأينا أنّ كلمات الحقّ لا تفارق كلماته، فتعالوا ـ ولو على نحو فهرسة الكلمات ـ نستعرض بعض كلماته في معنى الحقّ.
يقول (ع): "ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل". فإذا كنت تتصوّر أنّ الحقّ لا ينفعك، لأنّ أكثر من مشكلة تواجهك، فإنّ عليك أن تعرف أنّك إذا تركت الحقّ إلى الباطل، فإنّك سوف تعيش الضّرر في الباطل، لأنّ الباطل لا نفع فيه في العمق أبداً، وإن خيِّل إليك أنّ هناك نفعاً بطريقة سطحيّة.
ويقول عليّ(ع): "فلأنقبَّن الباطل حتى يخرج الحقّ من جنبه"، أي أراد للباطل أن يكون صافياً، لا يختلط الحقّ فيه فيخيَّل للناس أنّه الحقّ. وقد تحدّث أيضاً عن امتزاج الحقّ بالباطل، حتى يخيّل لهم أنّه الباطل: "ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين". ولكنّ المشكلة هي أن الحقّ يلبس بشيء من الباطل، فيظهر للنّاس أنه الباطل، ويلبس الباطل بشيء من الحقّ، فيبدو للناس أنه الحقّ.
وكان يقول لما سمع كلمة الخوارج: "لا حكم إلا لله": "كلمة حقّ يراد بها باطل". فلا يكفي أن تسمع كلمة الحقّ لتزحف إليها، ولكن عليك أن تعرف ما هي الخلفية التي تختئ وراء الصّوت الذي يطلق الحقّ، لأنّ البعض قد يحرّك الحقّ في اتجاه آخر ضدّ الحقّ، انطلاقاً من بعض عواطف الغوغاء ومشاعرهم، كما يحدث عندنا الكثير من ذلك، فما أكثر كلمات الحقّ الّتي يراد بها الباطل.
ويقول (ع): "الذّليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه". فموقفه من الآخرين له علاقة بمن له الحقّ وبمن عليه الحقّ، فليس مهمّاً أن يكون قويّاً أو ضعيفاً، بل من هو صاحب الحقّ ليقف معه، ومن عليه الحقّ ليقف ضدّه.
ويقول (ع)، وهو يريد أن يفاضل بين النّاس على أساس الحقّ: "إنّ أفضل النّاس عند الله، من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه، وإن نقصه وكرثه"، أي اشتدّ عليه وبلغ منه المشقّة، فهو كارث.
وكان (ع) يقول لبعض أصحابه عندما يستوحش بفعل ابتعاد الناس عنه، ويستأنس من اقتراب الناس إليه: "لا يؤنسنّك إلا الحقّ، ولا يوحشنّك إلا الباطل".
وكان (ع) يقول وهو يتحدّث عن خطّ العدالة عنده: "وأيم الله، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً".
وكان يقول للناس الذين يحكمون بما يسمعون، ولا ينتظرون حتى يتأكّدوا مما يمكن أن يكون أساساً للحكم: "أما إنّه ليس بين الحقّ وبين الباطل إلا أربع أصابع". فسئل (ع) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الباطل أن تقول سمعت، والحقّ أن تقول رأيت".
التوازن في الحبّ والبغض
وكان يتحدّث مع الناس في أنّ عليهم أن يتوازنوا حتى في حبّه وبغضه، فلا يتطرّف الحبّ حتى تغلو فيمن تحبّ، ولا يتطرّف البغض حتى تظلم من أبغضته: "سيهلك فيّ صنفان؛ محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ـ فيصل إلى درجة الغلوّ ـ ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ"، فيصل إلى درجة النصب والعداوة. وكم يهلك الناس في هذه الأزمنة بين محبّ غال، ومبغض قال، كما ورد في كلمة أخرى له.
وكان يتحدث مع الناس وكأنه يعيش معنا ليحدّثنا: لماذا هذه الهزائم؟ لماذا هذا التيه؟ لماذا هذا التمزّق؟ لماذا هذا السّقوط في الواقع الإسلامي كلّه، حتى إن الآخرين ينهشون من هذا الواقع قطعةً هنا وقطعةً هناك.
إنّه يقول: "أيّها النّاس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنّكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري، ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحقّ وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد".
أليست هذه هي صورتنا الآن، عندما نتحرّك لنطلب النصر من المستكبرين والكافرين والظالمين؟! أليس هناك من يصفّق لأمريكا لأنها في ظنّه تدافع عن المسلمين، كما كان البعض يصفّق لها لأنها في ظنّه كانت تدافع عن المسلمين في (البوسنه والهرسك)، في حين أنّ امريكا لا يمكن أن تفكّر في الخير، فهي الشرّ كلّه؟! وإذا رأيت بعض الخير، فانظر لترى ماذا هناك من مصالح أمريكا التي إذا التقت بالخير، فلا بدّ أن تجعل في داخله شيئاً من الشرّ، وهذا ما رأيناه في تهجير شعب (كوسوفو) هنا وهناك، ونحن نتذكّر بهذا تهجير الفلسطينيّين من أراضيهم.
إذا رأيت نيوب اللّيث بارزة فلا تظنّنّ أنّ الليث يبتسم
فهو يحاول أن يحضّر أنيابه ليعرف من أيّ مكان يفترسك.
وكان يقول للحسن والحسين (ع) في آخر وصيّته: "وقولا بالحقّ ـ في العقيدة وفي الشّريعة والأمن والسياسة والاجتماع والقضاء والعلاقات الخاصّة والعامّة ـ واعملا للأجر"، أي لما تقبلون عليه عند الله سبحانه وتعالى.
الصّلب في إقامة العدل
وكان الصّلب دائماً في إقامة العدل، وقد كتب لبعض عمّاله الذي أكل مالاً: "والله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة، حتى آخذ الحقّ منهما". ويذكّرنا هذا بكلمة رسول الله (ص): "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها". وفاطمة لا تسرق، ولذلك قال (لو)، وهي حرف امتناع، ولكنَّه أراد أن يصل بالمسألة إلى أقصى الدّرجات في تأكيد العدل.
خذلان الحقّ انتصار للباطل
وكان يريد من الناس أن لا يخذلوا الحقّ بحجّة أنهم لم ينصروا الباطل، لأنّ على الإنسان أن لا يكون حيادياً بين الحقّ والباطل، بل لا بدّ أن يكون مع الحقّ ضدّ الباطل، وهذا ما قاله عن الذين اعتزلوا القتال بينه وبين معاوية: "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"، وقال عن سعيد وعبد الله بن عمر إنهما "خذلا الحقّ ولم ينصرا الباطل".
فلا مجال، أيّها الأحبّة، للجلوس على التلّ، لأن الذين يجلسون على التلّ يساعدون الباطل، حتى لو لم يشاركوا في القتال معه، لأنهم عندما يُفقدون الحقّ موقعاً، فإنهم يضعفون الحقّ، فينتصر الباطل ـ حينئذ ـ من خلال ذلك.
إنّ الذي يقول إنّ "الصلاة خلف عليّ أقوم، والطعام عند معاوية أدسم، والجلوس على التلّ أسلم"، يجب أن يعرف أن لا قيمة للصّلاة خلف عليّ إذا لم يعش معنى الصلاة في موقف عليّ (ع)، فأن يكون مع عليّ (ع) في صلاته، يعني أن يكون مع الله، لأنّ عليّاً مع الله، فمن صلّى مع عليّ وعاش مع الشيطان، فكيف يكون مع عليّ (ع). فالجالسون على التلّ ـ وهم كثر ـ والّذين يُسمّون (الأكثرية الصامتة)، قد يكونون خائنين للخطّ، لأنَّ "السّاكت عن الحقّ"، حيث يمكنه أن يقول كلمة الحقّ، "شيطان أخرس". فمشكلة المسلمين اليوم هي الأكثريّة الصامتة التي يقول قائلها أنا لا مع هذا ولا مع هذا، ويُردّد: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجنّا من الشرّير". فإذا لم تقف ضدّ الشرّير، ولم تكن مع الخير، فكيف تنجو من الشرّير؟
معيار الحقّ
ورَدّ عليّ (ع) في (حرب الجمل) على بعض أصحابه (الحارث) الّذي قال له: أتظنّ أن أصحاب الجمل على ضلالة وأنا على هدى وهم كثرة؟ فقال له: "يا حار، إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه".
وفي كلمة أخرى له: "اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله". ويقول في المعنى نفسه: "لا يعرف الحقّ بالرّجال، ولكن يعرف الرّجال بالحقّ". فقد تختلط علينا مواقع الحقّ، عندما ننظر إلى هالةٍ لشخص هنا وهالةٍ لشخص هناك، وعنوانٍ كبير لشخص هنا وعنوانٍ كبير لشخص هناك، فنرى أنّه الحقّ، ولكن المشكلة هي أننا لا نعرف الحقّ لنعرف الميزان في تقويم هذا وتقويم ذاك.
ولقد قال لابن عباس كلمة قيّمة بعثها له في كتاب، قال عنها ابن عباس: ما انتفعت بكلمة كما انتفعت بهذه الكلمة: "أمّا بعد يا بن عباس: فإنّ العبد ليفرح بالشّيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشّيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ. وليكن سرورك بما قدمّت ـ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة؛110] ـ وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت".
وقال لابن عبّاس أيضاً وقد رآه يخصف نعله: "ما قيمة هذه النّعل؟"، قال: لا قيمة لها. قال: "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً". لأنّ الإمرة لعليّ (ع) ليست طموحاً ولا حالة ذاتيّة، ولكنّ عليّاً يريد للإمرة أن تكون الوسيلة الفضلى لتأكيد الحقّ ودفع الباطل.
كيف نكون مع عليّ (ع)؟!
أيّها الأحبّة: هذا عليّ الحقّ في كلّ معناه، فهل تريدون أن تكونوا مع عليّ (ع)؟ فمن كان مع الباطل فليس لعليّ (ع) شغل فيه، وليس له شغل في عليّ (ع)، فتعالوا لنفهم الحقّ في حياة عليّ (ع)، لنعرف كيف نسير معه، لأنّ السّير مع عليّ هو سير مع الله ومع رسول الله ومع الإسلام. وقد قال (ع): "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم". وقال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة".
فهل نعمل على أن تسلم أمور المسلمين، نحن الذين نثير في كلّ يوم فتنة ونزاعاً وخلافاً في هوامش الأمور وتفاهتها؟ أيّ إسلام هو هذا الإسلام؟ وأي تشيّع هو هذا التشيّع؟ " حسب الرّجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحبّ رسول الله، فرسول الله (ص) خير من عليّ (ع)، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً". ويتابع الإمام الباقر (ع) فيما روي عنه: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".
فالورع الورع.. والاستقامة الاستقامة.. وتبقى الولاية في خطّ النبّوة، وتبقى النبوّة في خطّ التّوحيد، ويبقى الإسلام يضمّ ذلك كلّه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
*فكر وثقافة، السنة الثالثة ـ 24 ذو الحجّة 1419 هـ/ 10/4/1999م، العدد (123).