الخطبة ۱۰۹: في الملائكة الكرام
قال عليه السلام:
مِنْ مَلَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، ورَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ، لَمْ يَسْكُنُوا اَلْأَصْلاَبَ، ولَمْ يُضَمَّنُوا اَلْأَرْحَامَ، ولَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ولَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ اَلْمَنُونِ، وإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ، ومَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، واِسْتِجْمَاع أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ، لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، ولَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ولَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، ولَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.
وفي عصيان الخلق:
سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً، بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً، وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً ومَطْعَماً، وأَزْوَاجاً وخَدَماً، وقُصُوراً وأَنْهَاراً، وزُرُوعاً وثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا، ولاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، ولاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اِشْتَاقُوا، أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، واِصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وأَمَاتَتِ اَلدُّنْيَا قَلْبَهُ، ووَلَّهِتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، ولِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اَللَّهِ بِزَاجِرٍ، ولاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وهُوَ يَرَى اَلْمَأْخُوذِينَ عَلَى اَلْغِرَّةِ، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ ولاَ رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وقَدِمُوا مِنَ اَلْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ، وحَسْرَةُ اَلْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، ويَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ، ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونَ اَلْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، واَلْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ، واَلْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ اَلْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ، ويَتَمَنَّى أَنَّ اَلَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا، ويَحْسُدُهُ عَلَيْهَا، قَدْ حَازَهَا دُونَهُ، فَلَمْ يَزَلِ اَلْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ، حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، ولاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، ولاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ، ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ اِلْتِيَاطاً بِهِ، فَقَبَضَ بَصَرَهُ، كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ، وخَرَجَتِ اَلرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، ولاَ يُجِيبُ دَاعِياً، ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي اَلْأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، واِنْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ.