ضواحي محافظة أصفهان لا تختلف كثيراً عن مركزها، فهي تزخر بالآثار القديمة التي تنم عن حضارتها العريقة وثقافة سكنتها على مر العصور، ومدينة جلفاء ما زالت حتى اليوم تحتفظ بهويتها التراثية التي تتجاوز الأربعة قرون من الزمن الأمر الذي جعلها مقصداً للسائحين ومحبي الآثار.
مدينة أصفهان الجميلة معروفة بتنوع الشعوب التي استوطنتها طوال تأريخها الحافل بالأحداث إثر هجرتها إليها من شتى نواحي إيران، وهذا التنوع بطبيعة الحال يستتبع تعدد المذاهب والأديان لذلك تنوعت الديانات في هذه المدينة، وبعد ظهور الإسلام تزايد تنوعها حيث انقسم أهلها بين المسلم والمسيحي واليهودية والزرادشتي، حيث تعايشوا جنباً إلى جنب بأمن ووئام.
الآثار القديمة في مدينة جلفاء أنموذج حي على عراقة أهلها وتوع أديانهم ومذاهبهم وعيشهم الرغيد بسلام إلى جانب بعضهم البعض، وفي عام 1014 هـ هاجر الكثير من المواطنين الأرمن إلى إيران لأسباب سياسية واقتصادية بعد أن شردوا من ديارهم وقد قيل إن عددهم فاق النصف مليون نازح فأمر الملك عباس الصفوي بإسكان الحرفيين والتقنيين منهم في الساحل الجنوبي من نهر زايندة رود والذي تحول فيما بعد إلى مدينة كبيرة اسمها جلفاء.
* تشييد أول كنيسة في مدينة أصفهان
أذن الملك عباس الصفوي لهؤلاء الأرمن الذين يعتنقون الديانة المسيحية ببناء كنيسة في مدينة أصفهان وبالفعل فقد تم تشييدها سنة 1019 هـ لأجل تقوية الأواصر الاجتماعية بين أهالي المدينة الأصليين والمهاجرين الجدد، وفي سنة 1024 هـ أصدر أمراً منحوا بموجبه بعض الأراضي التابعة للدولة على الضفاف الجنوبية لنهر زاينده رود ولم يسمح لغيرهم بامتلاك هذه الأراضي وهذه الخطوة هي المرحلة الأولى لبناء مدينة جلفاء الجديدة آنذاك.
إلى يومنا هذا ما زالت الآثار الأولى لمدينة جلفاء باقية ولا سيما بعض الجسور التي تم تشييدها في تلك الآونة لوصل المدينة بمركز مدينة أصفهان.
* مدينة أصفهان موطن آمن للمهاجرين الأرمن
الشعب الإيراني معروف بإكرامه للضيف وسخائه وكرمه والأصفهانيون هم أكرم الناس في إيران وأكثرهم سخاءً، وعلى هذا الأساس نال المهاجرون الأرمن امتيازات عديدة حينما استوطنوا مدينة أصفهان الجميلة فبسطت أيادي تجارها وفنانيها وتقنييها وحرفييها الأمر الذي أنعش الاقتصاد فيها وزاد من هيبتها وطور التقنية الصناعية فيها لدرجة أن بعض الوفود التجارية التي تمثل الدولة الصفوية في مختلف البلدان المجاورة والنائية ضمت تجاراً من الأرمن.
حظي المواطنون الأرمن في مدينة جلفاء ومركز مدينة أصفهان باحترام بالغ وعاشوا بحرية ووئام فشيدوا كنائس ومراكز دينية ومدارس مسيحية ومستشفيات ودور عجزة وشيئاً فشيئاً تحولت هذه المدينة إلى مركز للمسيحية في إيران بأسرها حيث يبلغ عدد كنائسهم فيها اليوم 25 كنيسة وديراً ومن جملة الكنائس التراثية الشهيرة كنيسة بيت لحم التي شيدت سنة 1030 هـ وكنيسة فانك التي بنيت سنة 1075 هـ.
الرحالة الفرنسي الشهير جان شاردان زار مدينة جلفاء في العهد الصفوي ودون في مذكراته بأنه لم ير في حياته مدينة حيوية ومنتعشة مثل جلفاء، وإحدى المباني التراثية القديمة في هذه المدينة تحولت اليوم إلى كلية للفنون الجميلة مما يعكس عظمة فن العمارة ورصانته في ذلك العصر الذهبي من تأريخ إيران، فالمباني الأثرية في جلفاء يجمع بين الأصالة الإيرانية والثقافة الأرمنية.
* كنيسة فانك يجتمع فيها فن العمارة الإيراني مع النقوش الإيطالية الرائعة
كنيسة فانك هي إحدى أشهر الكنائس في مدينة جلفاء وتعتبر الكنيسة الكبرى للمسيحيين هناك حيث شيدت على أطلال معبد قديم اسمه " آمنا بر كيج " وجدرانها مزينة بنقوش كنسية هي الغاية في الروعة
والجمال تصور بعض قصص التوراة والإنجيل والفنون الزخرفية الإيطالية والهلندية مشهودة فيها.
سقف الكنيسة مزين بنقوش مذهبة وقبتها من الداخل أيضاً زاهية بالألوان والصور الرائعة التي تمزج بين التراث المسيحي والفن المعماري الإيراني الأصيل الذي يصور حياة المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) وهذا الفن كما ذكرنا ممتزج مع النقوش الإيطالية الجمية.
تم تشييد هذه الكنيسة القديمة في عهد الملك سلطان حسين وإلى يومنا هذا بقيت قائمة وفي متحفها الخاص توجد آثار نفيسة وبما فيها نسخ مخطوطة لكتب يبلغ عددها 40 نسخة ومن ضمنها نسخ للتوراة والإنجيل، وأقدمها تأريخاً إنجيل يرجع تأريخ تدوينه إلى القرن العاشر الميلادي حيث دون على جلد حيوان، والنسخة القديمة الأخرى قرآن مترجم إلى اللغة الأرمنية يرجع تأريخ تدوينه إلى القرن الثامن عشر الميلادي، هذا إلى جانب العديد من الآثار الأخرى والتي تشمل لوحات منقوشة على الجبس يرجع تأريخها إلى العهد الصفوي وكذلك لوحات فنية رسمها فنانون أوروبيون.
* كنيسة "هاكوب" في قلب كنيسة مريم المقدسة
كنيسة هاكوب أو يعقوب هي إحدى أقدم الكنائس في مدينة أصفهان، وفي بوابتها الأصلية توجد لوحتان منقوشتان باللغة الأرمنية ويرجع تأريخ تدوينهما إلى سنة 1607 م حيث نصبا عليها سنة 1613 م.
كنيسة هاكوب التراثية تقع اليوم في باطن كنيسة مريم المقدسة التي تتوسطها باحة كبيرة لكنها أصغر من باحثة كنيسة فانك، لكنها أكثر نشاطاً وتقام فيها طقوس دينية أكثر.
تعلو هذه الكنيسة عدة قباب صغيرة وقبة كبيرة محاطة بأربعة شبابيك وتتقوم على أعمدة عريضة تقسم رواق الكنيسة إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الشرقي فيه المحراب وعلى جانبيه غرفتان مستطيلتا الشكل وفي جميع جدرانها وسقفها توجد نقوش هي الغاية في الروعة والجمال وكذلك بعض اللوحات الثمينة التي أهديت لها من قبل السيد جراك قبل أكثر من ثلاثمئة عام.
* كنيسة بيت لحم تزهو بالألوان الرائعة
في ساحة مدينة جلفاء الكبيرة شيدت قبل قرون كنيسة بيت لحم وهي لا تبعد كثيراً عن كنسية القديسة مريم، وأرضها قد أهديت من قبل أحد المواطنين الأرمن اسمه الخواجة بطرس ولي جانيان الذي رسمت صورته على جدار الكنيسة.
ما يميز هذه الكنيسة نقوشها الزاهية بأروع الألوان والتي يعكس بعضها حياة المسيح عيسى (عليه السلام)، وسقفها مزين بنقوش ذهبية وتعلوها قبة رائعة جداً تحيط بها ثمانية شبابيك وفي بوابتها لوحة مدونة يرجع تأريخها إلى سنة 1036 م ومساحتها بشكل عام على هيئة مستطيل كبير، وما يميز هذه الكنيسة أن جدرانها الخارجية لم تزين بنقوش كسائر الكنائس وأعلا نقطة مرتفعة فيه تبلغ 25 م وعرضها يبلغ 11 م، وفوقها ناقوس تم تشييده سنة 1897 م.
* عراقة مدينة جلفاء
محافظة أصفهان عريقة في جميع أكنافها ومدينة جلفاء أنموذج حي على تراثها الأصيل، فهي إحدى المناطق القديمة الزاخرة بالمباني الأثرية والكنائس القديمة وأصوات النواقيس تقرع هناك في كل مناسبة دينية الأمر الذي أضفى على المدينة روعة فريدة من نوعها، لذلك يمكن اعتبارها قطباً سياحياً هاماً فالمباني الأثرية فيها يقارب عمرها أربعة قرون.