في الحديث عن زيارة الأربعين، لابد ان نبدأ من الكلمات الوضاءة لقائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي الذي حيا زوار الامام الحسين (ع) يوم الاربعين قائلا "يا ليتنا كنا معكم"، بعد ان وصف سماحته المسيرات المليونية والامواج البشرية الهادرة المتوجهة نحو كربلاء الاباء، بأنها حركة عظيمة ذات مغزى كبير، وحسنة جارية على مر التاريخ، وظاهرة لا مثيل لها.
وقال آية الله خامنئي في عام ۲۰۱٥، إن تركيبة الحب والايمان، والعقل والعاطفة هي من المزايا التي تنفرد بها مدرسة اهل البيت عليهم السلام، ومن هنا فان الرابطة الروحية المشفوعة بالحب لآل النبي الاكرم (ص) والتوجه لزيارتهم هي من مميزات الفكر الشيعي، وبالتالي فان توجه الحشود المليونية من ايران وسائر دول العالم نحو كربلاء، وهي تنبض بالحب والايمان، يُعد من الشعائر الالهية دون أدنى شك.
وأشاد قائد الثورة الاسلامية بالضيافة المقرونة بالمحبة والاحترام التي يقوم بها الشعب العراقي لزوار الامام الحسين عليه السلام، وهذه النقطة من كلام القائد تفتح الحديث واسعا لما يقدمه العراقيون من خدمات منقطعة النظير لملايين الزوار وعلى مسافات مئات الكيلومترات، فمنذ شهر تقريبا استنفر ابناء الشعب العراقي كل طاقاتهم لخدمة ضيوف الحسين عليه السلام، سواء كانوا منطلقين من المدن العراقية أو من المنافذ الحدودية خاصة مع ايران الاسلامية والكويت.
ومع قرب إحياء أربعينية الإمام الحسين عليه السلام قامت الحكومة الايرانية بتقديم خدمات متنوعة تشمل قطاعات متعددة، نظير الصحة والسلامة وغيرها لزوار الأربعين، حيث يسعى الايرانيون الى جانب أشقائهم في العراق ليكونوا شركاء في خدمة زوار الأمام الحسين عليه السلام القادمين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في إحياء مراسم الأربعين.
وقال وزير الصحة الايراني، حسن قاضي زادة هاشمي: "نظرا للاتفاق الذي اجريناه مع الجانب العراقي سنقدم الخدمات الطبية في داخل وخارج العراق للزوار اكثر من السابق. واثمن جميع الجهود التي ساهمت لتقديم خدمات الطوارئ وايصالها لكافة زوار الاربعين".
كما ستشارك العديد من القطاعات الايرانية في هذا التجمع الكبير منها الاتصالات والبلديات والنقل والنظافة. اما القطاع الصحي فانه يحظى بأهمية بالغة في هذه المراسم، حيث قامت وزارة الصحة الايرانية بارسال كوادر طبية متمرسة الى العتبات المقدسة في العراق لتقديم الخدمات الصحية لزوار الاربعين.
وخلال هذه المراسم تم ارسال اكثر من تسعمئة سيارة اسعاف وخمسة وثلاثين حافلة طبية مجهزة، فضلا عن عشر مروحيات الى المناطق الحدودية، كما ان هناك نحو تسعة مستشفيات متنقلة، فيما ستستقر العديد من المراكز الصحية في المناطق الحدودية التي سيمر عبرها الزوار لزيارة الاربعين وهي مهران وشلمجة وجذابة لتقديم الخدمات المطلوبة للزائرين.
وفي زيارة الاربعين تزدحم كل الطرق المؤدية الى كربلاء المقدسة، والى مرقد الامام الحسين سيد الشهداء عليه السلام، تزدحم بالزائرين سيراً على الاقدام، وهم بين ايراني وافغاني وباكستاني وعراقي ولبناني، وبين ذو البشرة البيضاء والبشرة السوداء، وبين من هو عربي أو تركماني او كردي، وبين الغني والفقير، ومن يحمل هذه الفكرة وذاك الاتجاه، ويتبع هذه الجماعة او تلك. كل هذه الفوارق الموجودة خارج نطاق كربلاء الحسين، تذوب وتتلاشى عند المواكب الخدمية وعلى موائد الطعام وعند مواقف الاستراحة وفي كل مكان.
إن "التمييز" في معناه السلبي، على أساس العرق او اللون أو الجنسية، شكّل أزمة ثقافية وحضارية شّدت بخناقها على البشرية طيلة القرون الماضية. وأن "المواطن" ما أن يخرج من حدود بلده حتى يجد نفسه غريباً ومحكوماً باجراءات وقوانين جديدة تتعارض مع قوانين بلده، بل ربما تتعارض ايضاً مع ثوابته الدينية. ولكن؛ في الطريق الى كربلاء المقدسة لن يجد أي انسان قادم من أي مكان، ويتحدث بأية لغة في العالم، بانه غريب او يتعرض للتمييز عن الآخرين، لان الهوية التي يحملها مع الملايين من البشر أنه؛ "زائر الاربعين".
ويمكن ان نركز في هذا التقرير على هذه النقطة (أي غضّ النظر عن نزعة التميّز المتفاعلة في نفس الانسان) ففي زيارة الاربعين وفجأة وخلال ساعات، وما أن يضع رجله على طريق المشاة، يشعر الزائر بعدم الحاجة الى كل هذه التميّزات المكلفة، لان النهضة الحسينية اكبر من جميع تلك الأطر المميزة، فالتميّز الحقيقي في الانسانية التي صاغها الامام الحسين، عليه السلام، بتضحياته وبدمه، فاذا لم يجد الانسان انسانيته لن يجد أي شيء في الحياة، وهذا ما وهبه الامام، عليه السلام، لذلك الغلام التركي في ساحة المعركة عندما سقط صريعاً وفيه رمق من الحياة، فوضع خده على خد ذلك الغلام لانه خاض المعركة ليثبت انسانيته بالحرية والكرامة بين جميع الاحرار من حوله في معسكر الامام، فما كان من الإمام إلا أن يحقق طموحه أمام التاريخ والاجيال ويؤكد له أنه انسان حقيقي وحر وشريف.
ولابد من التذكير بأن ذوبان الفوارق، مبدأ أسسه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، مع تشييد الحضارة الاسلامية، عندما حارب الرقّ والعبودية وأطلق مفهوم الأخوة الاسلامية بديلاً عن العصبيات والانتماءات القبلية والفئوية. بيد أن المنهج لم يجربه المسلمون عملياً، إلا في واقعة الطف عندما اصطف الاسود مع الابيض، والمسلم مع المسيحي والعبد مع الحر، لنصرة القيم والمبادئ ومواجهة الباطل والطغيان.
في هذا الطريق الطويل الذي يستغرق لدى البعض، أياماً عديدة وأسابيع، تتمخض فوائد جمّة للزائرين انفسهم، فهم لا يسيرون الى حرب او خوض مكاره – لا سمح الله- بل العكس، نراهم يشقون صفوف المواكب الخدمية على مدى عشرات الكيلومترات، حيث الطعام والشراب والخدمات الطبية والمبيت وغيرها كثير، إنما يسيرون في موكب مشترك مع زائرين من مختلف انحاء العالم، وهناك مواقف استراحة ومبيت ولقاءات واحاديث جانبية وتعاون وتكافل تحدث في الاثناء بين الغني والفقير، وبين الايراني والباكستاني، او بين العراقي والافريقي وهكذا... وهو من شأنه ان يذيب، ليس الفوارق هذه المرة، إنما جبال من المشاكل والازمات التي تعاني منها الامة، ولو بشكل تدريجي، او لنقل؛ بدايات الحل، او ومضات لافكار في حل أزمات عجز عنها الساسة والمفكرون، مثل أزمة الوعي وأزمة الحقوق وأزمة العدالة وغيرها مما تسبب لابناء هذه الازمة أن تدفع اثمان باهضة بالدماء والثروات الهائلة والدمار الشامل لقاء سرقة الساسة واصحاب المصالح حق تقرير المصير، والتفكير بالنيابة والتخطيط وفق ما تشتهيه الدوائر المخابراتية واصحاب الرساميل الضخمة، لا ما تقضيه مصلحة الامة وحياة الانسان وكرامته.
وما يمر به الشعب العراقي من اختبار عنيف في تماسكه الاجتماعي وثقافته وهويته خير مثال على ذلك، فقد أثبت للعالم أجمع، وللمسلمين بأنه جديرٌ بالاقتداء والفخر ثم الدعم بمختلف الاشكال، لما قدمه من تضحيات وما يزال يسطّر الملاحم البطولية في سوح الجهاد والملاحم الانسانية في بيوت عوائل الشهداء وفي مشاهد التطوّع والتضامن والدعم والاسناد بمختلف اشكاله، لمواجهة الارهاب التكفيري بممارساته الدموية وفكره الجاهلي، الذي سمع به العالم للتوّ عندما بلغ المدن الغربية، بينما كان يهدد حياة الملايين من ابناء الشعب العراقي طيلة السنوات الماضية، حتى كان نفس هذا المسير لزيارة الاربعين محفوفاً بالمخاطر وأشبه ما يكون بالسير على الالغام، بيد أن هذا الشعب، بتحمله المسؤولية والتفافه حول قيادته المرجعية، أمّن هذا الطريق لملايين الزائرين من كل انحاء العالم الى كربلاء المقدسة، ليتذوق الجميع طعم الأمان في العراق وفي كربلاء المقدسة.
طبعاً؛ هذا جزء من الفوائد الممكن استخلاصها من مسيرة الحشود المليونية هذه الايام نحو كربلاء المقدسة، فهناك الفائدة الاجتماعية، حيث تتبلور اكثر فاكثر مفاهيم التكافل والتعايش وتبادل الافكار وتعميق الاخوة الاسلامية. بيد أننا في هذا الحيّز المحدود، ارتأينا تسليط الضوء على ما هو أولى وأقرب الى الواقع وما تعيشه الامة من تحديات وأزمات مصدرها مشترك وهو فتنة التكفير والطائفية والقراءة الخاطئة للدين.
من هنا يمكن القول: إن الزائرين الذين تخلّوا عن كل الفوارق والمميزات في كربلاء الحسين، واتحدوا في شعار واحد؛ "لبيك ياحسين"، سيعودون الى أهلهم وديارهم وهم روح التصدّي والمسؤولية، وتذكير الآخرين بأنهم يعيشون في سجن الحدود المصطنعة والانتماءات الضيقة.
إحسان الحكيم