بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة علي رسول الله وأهل بيته الأطهار .. أحبة القران الكريم السلام عليكم ورحم الله وبركاته .. ها نحن معكم في حلقة أخرى من حلقات برنامج نهج الحياة لنحط رحلنا عند تعاليم حياتية ترشدنا إليها الأيات 26 حتى 31 من سورة الاحزاب المباركة. لنصغ أولا إلى تلاوة مرتلة للايتين 26 و27 من سورة الأحزاب:
وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴿٢٦﴾
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴿٢٧﴾
ايها الكرام كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبي (ص) على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام، إلاّ أنّ "بني قينقاع" قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة، و "بنو النضير" في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى، وصمّموا على مواجهة النّبي (ص) وإنهارت مقاومتهم في النهاية، وطردوا إلى خارج المدينة، فذهب "بنو قينقاع" إلى أذرعات الشام، وذهب بعض "بني النضير" إلى خيبر، وبعضهم الآخر إلى الشام.
بناءً على هذا فإنّ "بني قريظة" كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، ، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة، واتّصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.
إنّ هذه الجمل تمثّل مختصراً وجانباً من نتائج غزوة بني قريظة، حيث قتل جمع من اُولئك الخائنين على يد المسلمين، واُسر آخرون، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.
تحتوي الأيتان على كثير من الدروس والعبر الحياتية منها:
- إن الإسلام يدعو إلى التعايش السلمي مع الجميع وحتى مع غير المسلمين ماداموا لم يتعاونوا مع الأعداء ضد المسلمين .
- يجب علي المسلمين أن لا يظهروا أي ضعف أو تهاون أمام الآليات العسكرية المتطورة والحديثة التي يتمتع بها الأعداء ، لأن الله سوف يقذف في قلوبهم الخوف والرعب لتكون الغلبة للمسلمين في النهاية .
- علي المسؤولين والمشرفين في إدارة البلاد أن يثقوا ويؤمنوا بالعون والتسديد الإلهي و ذلك بعد البرمجة والتخطيط على الأسس المادية والمنطقية.
والان ننصت أيها الأكارم إلى تلاوة الايات 28 و 29 من سور الاحزاب:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴿٢٨﴾
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّـهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٢٩﴾
مع انتهاء الحديث عن الحوادث التي جرت في معركة الاحزاب تعود بنا الايات مرة اخرى إلى الأيات الأولى التي كانت تتحدث عن زوجات النبي (ص) التي توّجتهن بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (اُمّهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟
يستفاد من أسباب النّزول الواردة بشأن هذه الايات أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة، أو لوازم الحياة المختلفة، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.
فامتنع النّبي (ص) عن تلبية طلباتهنّ، وهو يعلم أنّ الإستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة، فاعتزلهنّ شهراً، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبرجها فبإمكانكن الإنفصال عن النّبي (ص) والذهاب إلى حيث تردن، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر، وإقتنعتنّ بحياة النّبي (ص) البسيطة ، فابقين معه، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.
بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقعنّ رفاهية العيش، وخيّرتهنّ بين "البقاء" مع النّبي (ص) و "مفارقته".
لقد ظنت زوجات النبي أنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين، ويعطى لهنّ ما ناله المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف.
وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النّبي (ص) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة، فليس النّبي (ص) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء، ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.
ترشدنا الايات تعاليم كثيرة نستعرض بعضا منها:
- من المفروض أن تعيش أسرة الحاكم في بلاد المسلمين عيشة بسيطة بعيدة عن الزخارف والكماليات الدنيوية .فالقيادات وأسرتهم ومن يلوذ بهم كلهم جميعا تحت مراقبة أعين الناس .
- علي حاكم المسلمين أن لاينسى موقعه ومركزه فيما بين المسلمين وان لا يرضخ لطلبات أهله غير الصحيحة .
- إن الثقافة الإسلامية لا تقبل بطلبات الأهل التي تتعارض مع الدستور والتعاليم الدينية ولا ينبغي تلبية أمثال هذه المطالبات المخالفة مع الدين .
والان نصغي إلى تلاوة الايتين 30 و31 من سورة الاحزاب:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرًا ﴿٣٠﴾
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴿٣١﴾
تواصل الأيتان الحديث حول زوجات النبي الأكرم و دورهن في المجتمع الاسلامي وأنهن يمثلن قدوة للمسلمين فهم ينظرون إليهنّ ويتّخذون أعمالهنّ نموذجاً لهم .
بناءً على هذا فإنّ ذنبهنّ أعظم عند الله، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة، فإنّ لهنَّ حظّاً أعظم من العلم، ولهنّ موقع حسّاس له تأثيره في المجتمع.
يضاف إلى ذلك أنّ مخالفتهنّ تؤذي النّبي (ص) من جهة، ومن جهة اُخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنباً آخر، ويستوجب عذاباً آخر.والمراد من "الفاحشة المبيّنة" الذنوب العلنية، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها اُناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.
أمّا قوله عزّوجلّ: (وكان ذلك على الله يسيراً) فهو إشارة إلى أنه يجب أن لا تظن زوجات النبي أنّ عذابهنّ وعقابهنّ عسير على الله تعالى، وأنّ علاقتهنّ بالنّبي (ص) ستكون مانعة منه، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء، أو لا يعيرونها أهميّة... كلاّ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّهنّ بكلّ صرامة .
نتعلم من هاتين الايتين دروسا منها:
- إن العقوبة الإلهية تبنى على أساس معرفة الأفراد ومستوى تأثيرهم في المجتمع .فعن الإمام الصادق (ع)أنّه قال: "يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.
- إن الانتساب الرحمي مع القيادات الدينية حتى النبي الأكرم (ص) لا تمنح الفرد حصانة ليتخلص من العقوبة الأخروية بل يضاعف له العذاب.
- إن الذنوب والجرائم التي يرتكبها أصحاب المناصب ووجهاء القوم أكبر بكثير من الذنوب التي يرتكبها الأناس العاديون. و بعبارة أخرى فإن الذنوب الصغيرة لكبار القوم أعظم وأكبر من كبائر أناس عاديين .
ايها الأكارم انتهت وقفتنا عند الايات 26 حتى 31 من سورة الاحزاب المباركة على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى ومواصلة الحديث في هذه السورة المباركة نترككم في رعاية الله وحفظه ونسألكم الدعاء.