بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله كما هو أهله ثم أفضل الصلاة والسلام على أشرف الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.. إخوتنا المستمعين الأفاضل السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم أينما كنتم وأنتم برفقتنا في حلقة أخرى من برنامج "نهج الحياة" حيث سنقدم لكم فيها بإذنه تعالى تفسيراً ميسراً لسورة الكوثر المباركة، ورغم أنها أصغر سور القرآن الكريم لكن نظراً لأهميتها خصصنا لبيانها حلقة كاملة فكونوا معنا مشكورين...
أحبة الخير والإيمان، إسم هذه السورة مأخوذ من الآية الأولى ويعني الخير الكثير والوفير. وقد ورد في روايات متعددة عن الفريقين، أن العاص بن وائل، الذي كان من كبار مشركي مكة، بعد أن رحل كل أبناء النبي الذكور عن الدنيا ولم يعد عنده ولد، نعت النبي (ص) من باب السخرية والإهانة بالأبتر وقال إنه لا خلف له.
فأنزل الله تعالى سورة الكوثر لمواساة النبي وللرد على هذا الكلام الخاطيء، وقال إن عدوك هو المقطوع النسل، وأخبر عن بقاء نسل النبي وفكره ودوامهما.
أما الآن، أيها الأفاضل، ندعوكم للإستماع الى تلاوة مرتلة لسورة الكوثر المباركة..
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ{1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ{2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ{3}
أيها الكرام، يستخدم الله تعالى ضمير المفرد في مقام الدعوة إلى التوحيد مثل (وأنا ربكم فاعبدون) وكذلك الحالات التي ينجز الله عزوجل بها العمل من دون واسطة أو في مقام بيان الرابطة العميقة بين الخالق والمخلوق، يستخدم الضمير المفرد مثل (أنا الغفور الرحيم).
ولكن تكون الآية أحياناً في مقام بيان عظمة الله وشرف النعمة، ففي هذه الحالات يستخدم ضمير الجمع من مثل (إنا) كما ورد في هذه السورة، لأن العطاء الإلهي لأشرف خلق الله، وليس أي عطاء بل هو الكوثر، فيجب أن يكون ذكره مصاحباً للتعظيم.
أما كلمة "كوثر" عزيزي المستمع، مأخوذة من الكثرة وتعني الخير الكثير والوفير، ومن الواضح أن هذا المعنى يمكن أن يكون له أكثر من مصداق مثل الوحي والنبوة والقرآن ومقام الشفاعة والعلم الكثير والأخلاق الحسنة، ولكن يدل آخر السورة على أن المقصود من الكوثر هو النسل المبارك للنبي الأكرم؛ لأن العدو الحاقد تطاول على النبي بكل وقاحة ونعته بالأبتر، فقال الله تعالى دفاعاً عن حبيبه (ص) (إن شانئك هو الأبتر) لهذا، إن لم يكن النسل هو المقصود من الكوثر، فلن نجد معنى مناسباً للربط بين الآية الأولى والأخيرة من هذه السورة.
أما كلمة "أبتر" أيها الأكارم، في الأصل تطلق على الحيوان مقطوع الذنب وتطلق بالمصطلح على الشخص الذي يم يبق له نسل من بعده، ولأن أبناء النبي الذكور قد رحلوا كلهم عن الدنيا، فقال الأعداء: ليس له خلف ولا نسل وصار أبتراً؛ لأن البنت في ثقافة الجاهلية لم تكن لائقة بحمل إسم أبيها وحفظه. لذلك فإن آية (إن شانئك هو الأبتر) دليل على أن المقصود من الكوثر، النسل الكثير للنبي (ص) وبدون شك هو عن طريق السيدة الزهراء (س).
أجل، إخوتنا الأكارم، فقد رزق النبي بهذا النسل المبارك من السيدة خديجة (س) فقد أعطت مالاً كثيراً وأخذت الكوثر، ونحن أيضاً لن نصل إلى الكوثر إلا إذا تخطينا الكثير.
ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير حول هذه السورة: وأي نسل أكثر بركة من نسل فاطمة الذي كان منه أمثال الباقر والصادق والرضا (عليهم السلام) وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً منهم، خاصة في عهد الحكام الأمويين والعباسيين، قد استشهد، إلا أن لهم أولاداً اليوم في أغلب أنحاء العالم الإسلامي.
وبناء على الروايات، فإن الكوثر إسم أحد أنهر الجنة وأحواضها، ويرتوي منه المؤمنون، كما جاء كذلك في رواية الثقلين المتواترة أن النبي الأكرم قال: "...وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" أي الكتاب والعترة لن يفترقا حتى يلتحقوا يوم القيامة بالنبي (ص).
وتشير هذه السورة، أحبتنا الكرام، الى أن الكوثر الإلهي لا يرتبط بجنس محدد، فكانت فاطمة (س) بنتاً ولكنها صارت الكوثر، وليس له علاقة بالكثرة، ففاطمة كانت شخصاً واحداً وصارت كوثراً.
أجل، فإن الله تعالى قادر على أن يجعل القليل كوثر، ويمحو الكثير.
وفي هذه السورة المباركة خبران غيبيان، أحدهما إعطاء النبي الكوثر، وحدث هذا في مكة إذ لم يكن النبي يملك شيئاً ولم يكن له إبن، والثاني هو أن العدو سيبقى أبتر، مع أنه كان يملك الكثير من المال والولد.
وفي فتح مكة، أيها الكرام، دخل المشركون الى الإسلام أفواجاً وجماعات، فأعطى الله لنبيه الأمر بالتسبيح فقط بقوله تعالى (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك) ولكن عندما أعطاه الكوثر قال عزوجل (فصل لربك) وكأن أهمية الكوثر أكثر من أهمية دخول الناس الى الإسلام.
فالعطاء الذي ليس له نظير، في سورة ليس لها نظير، ومفردات ليس لها نظير مثل (أعطيناك، الكوثر، فصل، وانحر، شانئك، والأبتر) قد وردت فقط في هذه السورة وليس لها شبيه في القرآن الكريم.
إخوة الإيمان، مع نهاية تفسير سورة الكوثر المباركة، نأتي إلى ختام هذا اللقاء ضمن برنامج "نهج الحياة" فحتى الملتقى في حلقة قادمة دمتم بخير وأمان ونسألكم الدعاء.