من المؤكد أن إيران والقوات المنضوية تحت محور المقاومة سترد بحزم على الجريمة الأمريكية الجديدة، بعد مهاجمة كتائب حزب الله العراقي في الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من أن الأحداث المستقبلية لا يمكن التنبؤ بها، ولكن واشنطن قد بدأت الآن لعبةً خطيرةً لن تكون بالتأكيد الطرف الذي سينهيها.
في السنوات التي تلت تولي ترامب السلطة في الولايات المتحدة، علي الرغم من تزايد ضغوط البيت الأبيض على طهران وخاصةً في مجال العقوبات الاقتصادية، ونتيجةً لتصاعد التوتر بين البلدين في الخليج الفارسي، لكن ترامب نفسه كان يؤكد دائمًا على عدم رغبته في الانخراط عسكريًا مع إيران.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، لماذا أقدم البيت الأبيض علي ارتكاب هذه الجريمة خلافاً لاستراتيجية الحد من تورط الولايات المتحدة في غرب آسيا؟ وما هي التداعيات التي يمكن أن تترتب على الولايات المتحدة جراء ذلك؟
خطأ "المقامر" الكبير
إغتيال اللواء سليماني هو بالتأكيد أكبر مقامرة أقدم عليها ترامب في رئاسته، والتي يمكن أن تؤدي إلى هزيمته في الوقت الذي لم يتبق سوى عام واحد علي الانتخابات الرئاسية، وبينما يبحث خصومه الديمقراطيون عن فرصة لتحدي سياساته.
وفي هذه الظروف، من أجل فهم سبب قيام ترامب بهذه المقامرة الخطيرة، يتعين علينا النظر إلى التطورات الاقليمية في الأشهر الأخيرة.
بعد إسقاط طائرة "غلوبال هوك" الأمريكية في الخليج الفارسي، ورفض ترامب الانتقام خوفًا من عواقبه، وبينما كانت طهران قد قالت إنها سترد بحزم على أي هجوم، تراجعت بشكل حاد آمال حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصةً الكيان الإسرائيلي والسعودية والإمارات، في الرد العسكري الأمريكي على نفوذ إيران في المنطقة.
كذلك أثناء هجوم أنصار الله الصاروخي وبالطائرات المسيرة على منشآت النفط السعودية التابعة لأرامكو، أثارت حسابات ترامب هذه المرة أيضاً تساؤلات حول أسس اعتماد الدول الخليجية على قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عنها في أوقات الحاجة، وزادت من الانتقادات المحلية والأجنبية لترامب وسياساته في المنطقة. وهي السياسات التي اتبعت مطالب نتنياهو ومحمد بن زايد وجون بولتون، وبالتالي ليس فقط أثرت بشكل كبير على أمن القوات الأمريكية وحلفاء أمريكا في المنطقة، بل لم تقدم أيضاً أي حل.
هذه العملية، إلي جانب الفشل في المضي قدماً بملفات السياسة الخارجية الرئيسية الأخرى، مثل الأزمة النووية لكوريا الشمالية والقضية السورية، وكذلك الاستجواب في مجلس الشيوخ، أثارت قلق ترامب بشأن المستقبل. حتى أنه فهم أن إجراءات مثل التراجع عن المطالب الأولية للتوافق الاقتصادي مع الصين وإزالة أبي بكر البغدادي الذي بات ورقةً محروقةً، فشلت في تخفيف هذه الضغوط أيضاً.
في هذه الظروف، نفذ البيت الأبيض خطة مهاجمة قوات الحشد الشعبي، وخاصةً حزب الله العراقي، ليعيد الاعتبار إلي سياسته الإقليمية، ويبعث برسالة إلى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، مفادها أنه ينبغي عليهم عدم الذهاب إلى محادثات مع طهران لتخفيف التوترات.
ومع ذلك، فإن رد فعل الشعب العراقي الموحد في إدانة الجريمة الأمريكية ضد الحشد الشعبي والهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد، قد عطل كل حسابات واشنطن.
البيت الأبيض، الذي كان يخشي ثأر العراقيين في الأيام المقبلة، بالنظر إلي التصريحات المهددة لأبي مهدي المهندس قائد كتائب حزب الله العراقي، وضع علي جدول أعماله خطة اغتيال اللواء سليماني وأبي مهدي المهندس، في إجراء انتحاري. هذا الإجراء الذي يمكن استخدامه لجعل نتنياهو وبن سلمان سعداء مؤقتاً، ولكن هل نظر ترامب في الظروف التي ستترتب علي هذه الخطوة؟ بالتأكيد لا، وهذا ما أبرزته الردود المحلية المنتقدة لهذا الإجراء.
بينما يريد ترامب استخدام اغتيال قائد قوة القدس والشخصية المهمة في الحشد الشعبي كدعاية إعلامية له، ولكن منذ الآن بدأ خصومه الديمقراطيون في توجيه سهام انتقاداتهم إليه مرةً أخرى، واصفين إياه بالجهل وقلة الخبرة. كما قال "جو بايدن" إن ترامب "وضع إصبع ديناميت في برميل بارود".
في الواقع، أصبح من الواضح الآن بعد هذه الجريمة، أنه لم تتحسن الظروف بالنسبة لأمريكا فحسب، بل إن ردود الفعل في المنطقة والعالم أظهرت أن مقامرة ترامب الكبيرة كانت خطأً استراتيجياً من جانب واشنطن.
ترامب، الذي كان يسعى إلى الخروج التدريجي من المنطقة، لخفض الإنفاق الأمريكي في غرب آسيا والتركيز أكثر على الصين، عليه الآن التفكير في الخروج مع توابيت العسكريين الأمريكيين. وسياسات ترامب في المنطقة ستواجه في المستقبل القريب الفشل التام والمتواصل، وسيكون العراق بالتأكيد أول قطعة في هذا الدومينو.