بسم الله وله الحمد غاية آمال العارفين ومنتهى رغبة الصادقين والصلاة والسلام على أعلام صراطه المستقيم مصطفاه الأمين وآله الأئمة الهادين. السلام عليكم أحباءنا المستمعين، أهلاً بكم في أولى حلقات هذا البرنامج الذي نسعى فيه لتلمس معالم العرفان الإلهي النقي وطريق الوصول الى الله عزوجل والتخلق بأخلاقه وطي معارج الكمال والقرب منه جل جلاله ومرجعنا في ذلك وصايا وكلمات أعلام علماء مدرسة الثقلين القرآن والعترة مُنذ بداية عصر الغيبة والى عصرنا الحاضر، إذ أن هذه الوصايا والكلمات تمثل عصارة وخلاصة ما أستنبطوه من ينابيع الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تابعونا على بركة الله.
مستمعينا الأطائب، صاحب وصية هذه الحلقة هو علم مشائخ الإمامية في الغيبة الصغرى والمتوفى في نهايتها وبدء الغيبة الكبرى. إنه ثقة الإسلام وملاذ المؤمنين ابو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي، المتوفى في بغداد سنة تسع وعشرين وثلاثمائة للهجرة المباركة حيث قبره الشريف فيها معروف مشهور الى اليوم يزوره المؤمنون متقربين الى الله عزوجل ويقصده أرباب الحاجات متوسلين به الى الله لقضاء حوائجهم. والكليني رضوان الله عليه هو من الذين أجمع علماء الفريقين من السنة والشيعة على توثيقه وتعظيمه، فهو عند الشيعة أجل من أن يوصف بغير الخير والصلاح والوثاقة أما علماء السنة فقد ذكروه باجلال كأبن الأثير في الكامل وأخيه في جامع الأصول وابن حجر في لسان الميزان وابن عساكر في تأريخ دمشق والزبيدي في تاج العروس والزركلي في الأعلام، وغيرهم كثير يصعب إحصاؤهم. وكان مجلسه يحظى بحضور اكابر علماء عصره الذين كانوا ينتهلون من معين علمه الصافي خالص التفقه في الدين لما عرفوه به من الزهد والعبادة والمعرفة والتأله والإخلاص رضوان الله عليه.
مستمعينا الأفاضل، ما تقدم كان مختصراً عن مقام صاحب وصية هذا اللقاء، أما قصة الوصية فهي أن جماعة من المؤمنين طلبوا منه أن يكون عندهم (كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد) على حدّ تعبير ما ذكره ثقة الإسلام الكليني في مقدمة كتابه الموسوعي القيم الكافي. وإستجابة لهذا الطلب قضى الشيخ الكليني عشرين عاماً من عمره الشريف في تأليف وجمع كتابه المذكور وجمع فيه ما يزيد على مجموع ما أورده مؤلفوا الكتب الستة المعتمدة عند أهل السنة إذ بلغ عدد الأحاديث الشريفة التي أوردها في الكافي (۱٦۱۹۹) حديثاً. وقد أورد رضوان الله عليه هذه الوصية في مقدمة كتابه القيم هذا منبهاً فيها الى المنطلق الأساسي للقرب من الله عزوجل.
أيها الاخوة والأخوات نقرأ أولاً نص هذه الوصية القيمة طبق ما جاء على الصفحتين السادسة والسابعة من الجزء الأول من كتاب الكافي، قال رضوان الله عليه: "أحق ما اقتبسه العاقل، والتمسه المتدبر الفطن، وسعى له الموفق المصيب، العلُم بالدين، ومعرفة ما أستعبد الله به خلقه من توحيده، وشرائعه وأحكامه، وأمره ونهيه وزواجره وآدابه، إذ كانت الحجة ثابتة، والتكليف لازماً، والعمر يسيراً، والتسويف غير مقبول، والشرط من الله جل ذكره فيما إستعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة، ليكون المؤدي لها محموداً عند ربه، مستوجباً لثوابه، وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة، لايدري ما يؤدي، ولايدري إلى من يؤدي، وإذا كان جاهلاً لم يكن على ثقة مما أدى، و لامصدقاً، لأن المصدق لايكون مصدقاً حتى يكون عارفاً بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عزوجل: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة، لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة، إلى الله جل ذكره، إن شاء تطّول عليه فَقبِلَ عمله، وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)، لأنه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولايقين " . وقد قال العالم عليه السلام: "من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه. وقال عليه السلام: من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال".
أيها الأخوات والاخوة، وبعد أن قرأنا لكم نص وصية ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه نلخص المستفاد منها ضمن النقاط التالية:
أولاً: إن الحجة الإلهية ثابتةُ على الإنسان بلزوم أن يستثمر عمره في الدنيا فيما يقربه الى الله عزوجل.
ثانياً: إن هذا التقرب يكون بالعمل المخلص بالشريعة الإلهية وهذا الذي يصطلح عليه بعبادة الله بمفهومها الواسع الشامل لجميع شؤون الإنسان.
ثالثاً: إن هذا العمل يجب أن يكون على أساس اليقين بأن ما يعمل به الإنسان هو شريعة الله النقية وليس ما يراه الاخرون. والنتيجة المحورية هي أن الموحد الحقيقي هو الذي يأخذ معارف الدين الإلهي من ينابيعها النقية التي عرفنا الله بها عزوجل وإلا كان عمله على غير علمِ ويقين ولابصيرة فلا يزيده عن الله عزوجل إلا بعداً.
وبهذه النتيجة المحورية والمهمة ينتهي احباءنا لقاؤنا الأول من برنامج (من فيض أهل المعرفة)، استمعتم له من طهران صوت الجمهورية الإسلامية في إيران. شكراً لكم ودمتم بكل خير.