نص الحديث
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "السعداء بالدنيا غداً، هم الهاربون منها اليوم".
دلالة الحديث
هذا النص يتسم بطرافة كبيرة وبعمق دلالته انه من النصوص التي تجمع بين المتضادين من خلال اخضاعهما لدلالتين يستخلصهما المتلقي على نحو ما سنحدثك عنه الان.
لنتأمل اولاً عبارة "السعداء بالدنيا غداً"، ترى ما المقصود بعبارة الدنيا؟ ثم ما المقصود بعبارة غداً؟ ان المتلقي يفهم من كلمة (غداً) هو: يوم الحساب، ولكن كيف يفسر كلمة (بالدنيا) مع علمه بان الدنيا لاسعادة فيها بقدر ما تحقق السعادة باليوم الاخر؟ الجواب: ان قارئ النص يفترض اكثر من دلالة يستخلصها منها: ان السعادة تعني: ممارسة الانسان لوظيفته التي خلق الله تعالى الانسان من اجلها، وبعبارة جديدة: السعيد بدنياه من ادى ما عليه من الالتزام بمبادئ الله تعالى، وهذا هو الاستخلاص الصحيح.
في ضوء الاستخلاص المتقدم تكون عبارة "السعداء بالدنيا غداً"تعني: في اليوم الاخر يسعد الانسان بسبب ممارسته للوظيفة العبادية بنحوها المطلوب، لكن: ما هي الطرافة التي نلحظها في العبارة الثانية "هم الهاربون منها اليوم"، الجواب:ان ملاحظة هذه العبارة مع سابقتها بين (الغد واليوم وهو تقابل طريف من حيث كونه يتحدث عن الدنيا واليوم الاخر، وهذا يقتادنا الى ملاحظة ان اليوم والغد ينصرف منهما الذهن الى الدنيا والاخرة،
لكن السؤال الجديد هو: ان النص استخدم كلمة (اليوم) الرامزة الى الدنيا كما استخدم كلمة الدنيا في عبارة السعداء (بالدنيا) فكيف نستخلص الدلالات المشار اليها؟.
بلاغة الحديث
الطرافة في الموضوع هي: اولاً ان النص ربط بين (الدنيا) والهروب منها، انه استخدم الدنيا واكسبها طابعا ايجابيا هو: الهروب منها، واستخدم كذلك هذه المفردة واكسبها طابعاً ايجابياً ايضاً وهو: ممارسة العبادة او الخلافة او الوظيفة فيها، فكيف نجمع بينهما؟ الجواب: هنا تكمن الطرافة الفنية في قمة تصورنا لهذه الصياغة، كيف ذلك؟ اولاً: السعادة تساوي الهروب من الدنيا. ثانياً: السعادة تتحقق في الاخرة لان الجزاء المترتب من هروب الدنيا هو: الرضوان والنعيم، وكذلك تتحقق السعادة في الدنيا، وذلك بسبب ممارسة المهمة العبادية وهذا يعني اننا امام تقابل وتجانس في آن واحد، التقابل بين سعادة الدنيا والاخرة، والتجانس بين سعادة الدنيا المتمثلة في ممارسة الخلافة في الارض وسعادة الاخرة المتمثلة في كسب الجزاء المترتب على الممارسة المذكورة.
يبقى ان نحدثك عن التقابل او الطرافة بين الهروب من الدنيا والعمل في الدنيا، حيث يرمز الهروب الى نبذ الزينة، واللعب، واللهو.. الخ، وحيث ترمز السعادة الى العمل بمبادئ الله تعالى دنيوياً، والجزاء المترتب على ذلك اخروياً، اذن: امكننا ان نتبيين جملة من النكات الكامنة في النص المذكور سائلين الله تعالى ان يجعلنا من الهاربين من الدنيا اليوم، والسعداء بها غداً من خلال ممارستنا العبادية كما نسأله ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة انه سميع مجيب.