إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، وكلّ المراحب بكم في هذا اللقاء الذي يسرّنا أن يتجدّد معكم عند جولة أخري في عالم الشباب وقضاياه عبر برنامجكم نبض الحياة الذي سنخصّص حلقته لهذا الأسبوع لبحث واستعراض ظاهرة حبّ الشباب للحريّة ، والسبيل الأفضل لترشيد هذه الطبيعة المودعة في فطرتهم ، ندعوكم لمرافقتنا ....
مستمعينا الأكارم !
من جملة الخصوصيّات التي تتجلّي في ذات الشاب وتعتبر مصيريّة له ، خصوصيّةُ حبّ الحريّة . فالحريّة هي من الكلمات الجذّابة التي تسحر الشاب وتجذبه إليها . فالشاب لا يتقبّل أي قيد وقانون وحدود ، وطبيعته تقتضي في بعض الأحيان أن يتطلّع إلي الحرية المطلقة والمنفلتة في بعض المجالات .
ويعتبر الشباب مصدراً زاخراً بالطاقة والأمل والابتكار . ولذلك فإنهم يتميّزون دوماً بوجود متلاطم و مفعم بالحماس و حيوي ومضطرب و يتلذّذون بالمأكولات والمشروبات والملابس و الأقوال والمسموعات وطبيعتُهم لا تتلاءم مع أي شيء يمنع ويحدّ من الطاقة والأمل والابتكار وذلك الحماس والنشاط واللذّة الجامحة . هذا في حين أنهم لايمتلكون سوي القليل من التجارب والعلم والبصيرة المحدودة للغاية و يجهلون الأحداث الظاهرة والخفيّة حولهم ، ولكنهم مع ذلك لا يقعون في الغفلة والجهل بعد اتقاد شعلة الوعي في وجودهم .
وبناء علي ذلك ، فإن علينا أن نسلّط الضوء علي العلاقة بين الشاب والحريّة . لأن دوافع الشباب هي كالريح المفيدة لدفع السفينة ، ولكن لاينبغي ترك شراع هذه السفينة لحاله وإلّا فسوف يتجه بالإنسان إلي أي مكان شاء . والحريّة مدمّرة إن استندت إلي الأحاسيس والعواطف ولكن الحريّة القائمة علي العقل ، حليفة لعزّة الإنسان وكماله .
والتعريف الدقيق والبيان الكامل لمفهوم الحريّة ، يؤدّيان إلي وعي الجيل الشاب و تعديل مطالبهم والحدّ من جموحها . كما أنهم بحاجة إلي التعبير عن وجودهم و إبداء آرائهم وطرح شخصيّاتهم ، فيجب بالتالي علي المحيطين بهم أن يسرّعوا من مراحل نموّهم وتكاملهم . وعلي سبيل المثال فإن بإمكان كلّ من الأسرة والمدرسة وباعتبارهما المؤسستين المقدّستين للتربية والتعليم أن تهيّئا الأرضيّة لمنح الشباب الحدودَ المعقولة من الحريّة وذلك من خلال كسب ثقة الأولاد والتلاميذ و الإيكال الواعي للمسؤوليّة و منحهم حرية التصرّف في بعض الحالات .
مستمعينا الأحبّة !
وفضلاً عن المضار الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة التي تتميّز بها الحريّة ، فإنها تتمتع أيضاً بنوع من القدسيّة بل إنها اكتسبت أكثر المظاهر القانونيّة والإنسانيّة اجتذاباً للإنسان . فجميع الشعوب تتحدّث عنها مهما كانت ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وجذورها التاريخيّة تمتدّ إلي آلاف السنين وتزامناً مع مولد الإنسان الأوّل في هذا الكون ، فضلاً عن طبيعتها العالميّة . وقد أكّد الأنبياء والقادة الإلهيّون دوماً علي مكانة الحريّة وقيمتها في الحياة الفردية والاجتماعيّة . كما أن الحريّة لها قيمة مكانة خاصة في العصر الحديث أيضاً ؛ فكل شخص يعتبر نفسه حرّاً وناصراً للحريّة و هو يفتخر بها .
إن رؤية الشباب ووعيهم لموضوعي التحرّر من هوي النفس والعبوديّة لهذا الهوي وفصلهما عن بعضهما البعض ، كل ذلك يؤدّي إلي الاستغلال الصحيح للحريّة وهو ما يهيّء الأرضيّة لنموّهم وتساميهم . وقد كان نشر روح اللامبالاة والانفلات في الأمور الجدّية ، وشغل الجيل الشاب بمظاهر الشهوات ومادّيات الحياة المفعمة بالشهوات ، كل ذلك كان أسلوب الشياطين دوماً . في حين أنّ سيرة الزعماء والقادة الإلهيين كانت علي الدوام ومنذ البدء وحتي اليوم ، دعوةَ الجميع وهدايتهم إلي التحرّر من هوي النفس والحريّة كي تربط الجدّية والالتزام و النزعة إلي المثل العليا و الثقة بالنفس في مجالات الحياة المختلفة ، حياتَهم العابرة والزائلة بالغد الخالد .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
يقول الإمام علي عليه السلام مخاطباً ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه :
" لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً .
ويطرح عليه السلام العقبات التي تقف في طريق النموّ والكمال ، و العبوديّات التي تتسبّب بالشقاء والذلّ للإنسان وذلك في قوله :
" عَبْدُ الشَّهْوَةِ أَسِيرٌ لَا يَنْفَكُّ أَسْرُهُ
ويوجّه الإمام علي عليه السلام ولده الشاب الإمام الحسن (ع) نحو الحريّة الفكريّة والمعنويّة التي تعني التحرّر من قيود العبوديّة للدنيا والذات ويذكّر بأن عزّة الإنسان تكمن في شخصيّته الحرّة وكرامة نفسه . ويري الإمام أن علي الإنسان أن يعرف قدر نفسه وأن لايقع في أسر أفكار الآخرين وشخصيّاتهم و لا تستعبده الأهواء النفسيّة ولايتجاوز حدّ الاعتدال و يتجنّب أي نوع من الإفراط والتفريط ، حيث يقول عليه السلام في هذا المجال :
" اقمعوا هذه النّفوس فانّها طلقة إن تطيعوها تنزع بكم الي شرّ غاية .
وعلينا أن نلتفت في هذا المجال إلي أن الحرية في كل مرحلة من الحياة ، يجب أن تكون ضمن حدود الاعتدال كي لا يتضرّر الإنسان بسبب الإفراط فيها ، فإن الحريّة إن مُنِحت بحيث تتجاوز الحدود المسموح بها ، فإنها ستؤدّي إلي التناقضات في السلوك ، و عدم الالتزام بالقوانين والقواعد السائدة في المجتمع وعجز الفرد عن استيعاب قوانين المجتمع في المستقبل ، ومن جهة أخري فإن قمع الحريّة وتجاوزها للحدود ، سيؤدّيان إلي سلب الإنسان الثقةَ بالنفس والحريّة في اتخاذ القرارات وكذلك إلي كبت القدرات الفرديّة و الإبداع . فيجب إذن الحذر من الإفراط والتفريط في تطبيق الحريّة عملاً بالحديث الشريف : " خير الأمور أوسطها .
ويري الفيلسوف الإنجليزي جون لاك أنّ الحرية لا يمكن أن تكون مطلقة أبداً ، فالفقدان الكامل للإشراف والمراقبة ليس حرية ، بل استغلالاً للحريّة . ولذلك فإن بيان الحريّة سيهيّء الأرضية لفهم أفضل لها .
وبالطبع فإن من الواجب إيضاح هذه الحقيقة للجيل الشاب وهي أن الحرية والسبيل الصحيح لاستغلالها ، هما موضوعان مختلفان ولكنهما مترابطان في نفس الوقت ، ويذكّران الشباب بأن لايعتبروا الأمر منتهياً بمجرّد التمتّع بالحريّة ، بل إن ذلك هو بداية الطريق لأن سرّ استمرار الحريّة يكمن في الاستغلال الصحيح لها .
مستمعينا الأعزّة !
انتظرونا في حلقتنا القادمة من برنامج نبض الحياة عند قضيّة أخري من قضايا الشباب ، نشكر لكم كرم المتابعة ، وفي أمان الله