البث المباشر

الجنّة قاعٌ صفصف

السبت 5 أكتوبر 2019 - 14:43 بتوقيت طهران
الجنّة قاعٌ صفصف

من المفيد أن نشير ـ هنا ـ إلى أنّ كلّ الآيات والروايات أو جلّها التي ورد في يوم الحساب والجزاء، تربط الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة، ويومئ هذا الربط والالتحام، إلى أنّ الآخرة أقرب إلى الشهادة منها إلى عالم الغيب، وأن من يتطلّع إلى خيرها ونعيمها، فعليه أن يعمل عملاً صالحاً ينتفع به النّاس.

وإليك أمثلة من هذه الآيات والرّوايات:

قرأت في كتاب "مرآة الآخرة" لمحسن الفيض المطبوع مع كتابه "علم اليقين"، أن النبي (ص) قال: "الجنة قاع صفصف، فأكثروا من غراس الجنة"، ومثله في سفينة البحار ماّدة غرس "ليلة أسري بي قال لي إبراهيم (ع): مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنّة، فان أرضها واسعة، وتربتها طيّبة".

وإذا عطفنا أحد الحديثين على الآخر وجمعناهما في كلام واحد، يكون مفادهما ومؤدّاهما، أن الغرس الطيب في أرض خبيثة، أو الغرس الخبيث في أرض طيّبة، لا ينمو ولا يثمر، وأنه إذا أردنا أشجاراً ناضرة وثماراً يانعة، فلا بدّ من الطيبة والجُودة في كلّ منهما، وأرض الجنة جيدة طيبة، وتتسع إلى ما لا نهاية له من الغرس والبذر، ولكن غرسها لا يكون ولن يكون إلا الحسنات وفعل الخيرات في الحياة الدنيا، فمن أرادها بهذا الشرط والثمن، فله منها بمقدار ما يغرس ويبذر، وهي تطلبه على هذا الأساس قبل أن يطلبها، وكلّ ما قلناه وما جاء في هذا الباب، أشار اليه الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله: "العمل الصالح حرث الآخرة".

والآية 147 من الأعراف: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، فقد دلّت بظاهرها على أنّ العمل في العاجلة ليس سبباً للجزاء في الآجلة، حيث لم يقل سبحانه بما كانوا يعملون بل قال: {ما كانوا يعملون}، ومعنى هذا، أنّ العمل هو بشخصه جزاء العامل، ولكنّه يتحوّل غداً إلى صورة ثانية، تماماً كالنواة تصير شجرة، والحبة نبتة، والنطفة إنساناً.

مثلاً: إذا احتكر الناس الأموال واكتنزوها ولم ينفقوها في سبيل الله، تتحوّل إلى جمرات ونيران {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}(35 ـ التوبة).

ولا شيء أصرح في الدلالة على هذه الحقيقة من قوله تعالى: { هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ}، ولم يقل (بما كنزتم). وإذا أنفق الناس أموالهم في سبيل الله، تحوّلت إلى حدائق وقصور ونمارق وحور.. وتجلّت هذه الحقيقة بأوضح صورها وأكملها لامرأة فرعون وهي في الحياة الدنيا، حيث قدّمت نفسها ثمناً لبيت في الجنة يقيها عذاب الحميم، وقالت مع النفس الأخير: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}(التحريم: 11).

ودخل رجل بيت أبي ذرّ، فلم يجد فيه شيئاً، فقال: يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟. قال له: "لنا بيت نوجّه إليه متاعنا".

ومن هذا الباب، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} (10 ـ النساء).. { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ} (81 البقرة) {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} (72 ـ الإسراء).. {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (89 ـ الشعراء). وقال رسول الله (ص): "المرء مع من أحبّ، ولو أنّ أحدكم أحبّ حجراً لحشر معه".

وفي حديث آخر: "لا بدَّ من قرينٍ حيٍّ يدفن مع الميت وهو عمله".

أبعد هذه الشواهد والدلائل على التلاحم والتكامل بين الدنيا والآخرة، يقول قائل: الجزاء غداً غيب في غيب؟ ولنفترض أنّ هذا الجزاء غيب، فأين مكان الشّرّ فيه والعيب؟ أفي النهوض بالإنسان إلى الجهاد والعمل لخير الإنسانيّة ومصلحتها، أو بالتشجيع والتكريم لكلّ ذي عقل سليم وقلب رحيم؟ وكيف عمي الجاحدون عن هذا الجانب الإيجابيّ العمليّ، وهم الدعاة إلى كلّ جديد ومفيد كما يزعمون؟ وأخيراً، هل سكروا من غير شراب أو أصابهم سكر (الأفيون)؟!

وفي ظني أن هؤلاء الجاحدين لجزاء الآخرة، لو أدركوه كما هو في القرآن ودين الإسلام، لتراجعوا وسبقوا كلّ الناس إلى الدعوة والدعاية للإيمان به، ولو من وجهة إنسانيّة، لأن هذا الإيمان من أقوى البواعث على تهذيب السلوك والاستقامة على طريق الحقّ والعدل، ومقاومة الفساد والضّلال.

هذا فيما يعود إلى جزائه تعالى في يوم ينفع الصّادقين صدقهم، أمّا جزاؤه في حياتنا هذه، فما هو بأصل وقانون كما هي الحال في الآجلة، ولذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"، إلا ما يقصد به الوقاية والحماية لمصالح الأفراد والجماعة، قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (179 ـ البقرة).. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (251 ـ البقرة).

وفي كتب الفقه الإسلامي عرض مفصّل للحدود وما يتبعها من التعزيز، وللقصاص والديات، وأسباب التعويض والضمان، وطريق العلم بهذه الكتب ممهَّد لمن أراد.

وقد يكافئ الله سبحانه في الحياة الدنيا على الصدقة، بدفع الضراء والبلاء، وعلى الإخلاص بالتوفيق والهداية إلى سبيل النجاح، وعلى تكذيب الأنبياء بالعواصف والقواصف، كما فعل من قبل بقوم نوح وعاد وثمود.. ولكن لا ضابط ومقياس لذلك في علمنا نحن، ولله في خلقه أسرار وشؤون، وما علينا أن نبحث عنها ونتكلّفها.

*من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام" للشيخ محمد جواد مغنية.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة