السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات ورحمة من الله وبركات.. أطيب التحيات نهديها لكم في مطلع لقاء اليوم من هذا البرنامج نستنير فيه بنور آخر من أنوار كربلاء والقيام الحسيني والزينبي المقدس.
أيها الإفاضل، بين النبي الأكرم – صلى الله عليه وآله – وفي عديد من أحاديثه الشريفة المروية في المصادر المعتبرة عند مختلف الفرق الإسلامية.. عمق أبعاد مظلومية سبطه الحسين الشهيد وفاجعة عاشوراء الدامية وما تلاها من فجائع نزلت بأهل بيته المكرمين.. كان ذلك قبل وقوع الفاجعة تنبيهاً منه – صلى الله عليه وآله – لأمته ولسائر أجيال المسلمين على ما يضمره أعداؤه من أشياع آل أبي سفيان لأهل بيته الكرام – عليهم السلام -.
وكان – صلى الله عليه وآله – أول الباكين على سبطه الحسين لعظم تلك الفاجعة.. فدموع من يقتدى به في هذا البكاء المقدس تشع بأنوار البراءة من أعداء المحمدية البيضاء من أشياع آل أبي سفيان ونظائرهم من الأولين والآخرين.. وهذه الأنوار هي التي تجعل شعار أنصار خاتم الأوصياء المحمديين (يا لثارات الحسين) فهم المحمديون الصادقون في نصرة الحق وإزالة كل ظلم وجور أدى الى وقوع تلك الفاجعة العظمى.
تحت عنوان (عثرة للدهر.. لا تقال) كتب الأستاذ الأديب الحاج إبراهيم رفاعة في إطلالة على إحدى روائع الأدب الحسيني يقول:
من أفق عال ينظر السيد حيدر الحلي، ومن هذا الأفق يتكلم، الفاجعة ما مثلها فاجعة، والخطب أعظم ما في العالم من خطوب.. يبكي له حتى من لم يعرف في حياته البكاء، لكن السيد حيدر لا يبكي! لا يريد أن يبكي! إنه يعاند البكاء، حتى لو جاءته العبرة على رغمه، فإنه يبادر إلى الإمساك بها وضيعها من الحدوث، البكاء منفس عن الحزن المحتدم، ومخفف من اللوعة المضطرمة في الداخل.. وهو لا يريد لحزنه متنفساً ولا للوعته التي أخذت بكظمه ما يخفف منها اللهيب، دعوه يحترق.. إنه محترق بنار كربلاء!
إنه رجل هاشمي مثكول، مهموم ومكظوم، والرزية التي اقترف جريمتها آل أمية وآل أبي سفيان يوم عاشوراء أصابت قلبه السويداء، ورنحت الكرامة المتألهة وألقتها بهوان على التراب.
ذبحوا – يوم ذبحوا أبا عبدالله السيد الحسين في طف كربلاء – كل معاني الرحمة والهدى وعذوبة أسرار التوحيد، ما بقي شيء ليقدس أو يخشى عليه، كل شيء انتهك واستبيح، حتى حرمة عيال محمد اللائي ما عرف العالم الطهر والعفة والصون والحياء إلا من بيوتهن.. ما الذي صنعوه بهذه الحرمة في الأسر الغاشم والسبي المهين؟!
لا يحتمل السيد حيدر ولو استذكاراً لما حدث في كربلاء.. لن يبكي.. إنه يبتغي شيئاً آخر يشفي به – دفعة واحدة – عذابه الداخلي، وينشد الثأر للكرامة الإلهية المهدورة والشرف المحمدي الذي أهين!
عثر الدهر ويرجوا أن يقالا***
إنها إذن عثرة عثرها الدهر يوم عاشوراء وكبا فيها لوجهه، عظيمة عثرة الدهر هذه، جسيمة هائلة لا أهيب منها ولا أخطر، وما ارتكب في كربلاء الحسين شيء لا يصدق، شيء لا يمكن الصفح عنه بحال أو تناسيه، ولا يجوز لأحد أن يمد يده الى هذا الدهر يقيل عثرته وينهضه من كبوته، إن هذا محال:
عثر الدهر ويرجوا أن يقالا
تربت كفّك من راج محالا
ويبين أن مراد الشاعر من عثرة الدهر هنا: مجموع الحوادث الدامية الفظيعة التي اقترفها أهل الدنيا وأبناء الزمان في عاشوراء، إن خطاب السيد حيدر – وهو خطاب عاتب لائم شديد – إنما هو لمجموع هذا الذي جناه الضالون في الزمان والمكان:
عثر الدهر ويرجو أن يقلا
تربت كفك من راج محالا
اي عذر لك في عاصفة
نسفتَ من لكَ قد كانوا الجبالا
فتراجع وتنصّلِ ندماً
أو تخادع واطلبِ المكرَ احتيالا
قتلت عُذرك إذ أنزلَتها
بالذرى من هاشم تدعو نِزالا
لا أقالتني المقادير إذا
كنت ممن لك بادهر أقالا
أيذكر الدهر هذا بما جنت يداه في مذبحة عاشوراء المدوية الممتدة الجليلة الحمراء؟! أيقول له: إن من قتلوا عطاشى ظماءً في كربلاء هم سقاة حوض الكوثر في قيامة الله؟! أيذكره أن هؤلاء الشهداء الأصفياء الأعزاء هم أهل الشجاعة في العالم وهم سخاء السخاء وجود الجود؟! أيقول له: إن من أسرت نساؤهم وبناتهم سبي أهل الكفر هم منبع الشرف والحسب ومعدن النبل والكرامة وكل خصال الخير والمحبة والنور؟!
أزلالَ العفوِ تبغي.. وعلى
أهل حوض الله حرمت الزلالا؟!
المطاعين إذا شبت وغى
والمطاعيمُ إذا هبَّت شِمالا
والمحامين على أحسابهم
جهد ما تحمي المغاوير الحجالا
ولهم كل طموح لا يرى
خد جبار الوغى غلا نعالا
أرخصوها للعوالي مهجاً
قد شرها منهم الله فغالى
قال السيد حيدر للدهر هذا، وقال غير هذا.. دون أن يشفي شيئاً مما يكابد من آلام؛ فآلام كربلاء فوق ما يعرف الناس من الآلام، إن الموت أحب إليه من نسيان فجائع أبي عبدالله الحسين وآل أبي عبدالله الحسين:
نَسيت نفسيَ جسمي أو فلا
ذكرت إلاّ عن الدنيا ارتحالا
حين تنسى أوجهاً من هاشم
ضمّها التربُ هلالاً فهلالا
عترَةُ الوحى غدت في قتلها
حُرماتُ الله في الطفّ حلالا
تلك أبناء علي غودرت
بدماها القوم تستشفي ضلالا
إلى من يتوجه السيد حيدر ليشكو بثه وحزنه على هذه الرزايا التي تأخذ بالخناق وتضيق الأنفاس؟! من من الناس يتفهم حقيقة ما حدث في مصائب كربلاء؟! ومن الأولى أن ينتهض وينتفض مخلفاً الدنيا وراء ظهره، ولا يشغله شاغل إلا كربلاء؟! إن كل شيء في كربلاء، وكل شيء فيها ديس وأهين يوم عاشوراء:
يا حشا الدين ويا قلبَ الهدى
كابدا ما عشما داء عضالا
نسيت أبناء قهر وترها
أم على ماذا أحالته اتكالا
فَمن الحاملُ عنّي آيةً
لهم لو هزت الطود لزالا
إنه مرسل رسالة عاجلة إلى أهله في مكة من بني عبد المطلب شيبة الحمد.. يستنهض ويحشم ويحشد، هذه الرسالة تقيم حتى الميت من قبره، و"لو هزت الطود لزالا" كما قال سيقول في رسالته أشياء كثيرة لبني شيبة الحمد الذين تقدم زمانهم، فلم يشهدوا يوم عاشوراء، يذكر بما صنع بفلذة فؤاد النبي الحبيب وبضعة علي وفاطمة، وبما جرى على الفتية الهاشميين الصباح البيض الوجوه المحمديين، ولم يسلم من أبشع القتل حتى أطفالهم الرضعان، أما الأسر والسبي فمحنته لا جواب لها غير القتال حتى الظفر أو الموت، هو ذا الشاعر يحمل رسوله وصيته:
قف على البطحاء واهتف ببني
شيبة الحمد وقل: قوموا عجالى!
كم رضاع الضيم؟! لا شب لكم
ناشئ، أو تجعلوا الموت فصالا
كم قرار البيض في الغمد؟! أما
آن أن تهتز للضرب انسلالا؟!
طحنت أبناء حرب هامكم
برحى حرب لها كانوا الثقالا!
وطئوا آنافكم في كربلا
وطأة دكت على السهل الجبالا
وانتضوا قضباً هندية
بسوى الهامات لا ترضى الصقالا
حق للسيد حيدر الحلي ما يفعل في حرارة شعره، إن غيرته الحسينية لا تخيله.. هذه المحزونة المخزونة في عمق فؤاده وصميم قلبه، كبركان متفجر في الداخل محتدماً لا يجد له منفذاً للخروج، أعان الله قلبه وجعل معاناته هذه الجليلة النبيلة ذخراً له الى يوم آت من أيام الزمان.. هو يوم نشر الرايات المقدسة المطالب أصحابها بثارات الشهيد الحسين.. صلوات الله على الحسين.
ختاماً تقبلوا منا أيها الأطائب أطيب الشكر على طيب إستماعكم لحلقة اليوم من برنامجكم نور من كربلاء قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، دمتم في أمان الله.