السلام عليكم مستمعينا الأعزاء ورحمة الله وبركاته.. أطيب تحية نحييكم بها ونحن ندعوكم لمرافقتنا في حلقة اليوم من هذا البرنامج.
أيها الأفاضل؛ من الأنوار القدسية التي يشع بها البكاء على الحسين'>البكاء على الحسين سيد الشهداء – صلوات الله عليه – نور الإخلاص في حب من يحب الله محبه؛ وهو حب يجعل الباكي على الحسين يتحرر من جميع أشكال الطمع حتى في الثواب؛ وينقله الى الأفق الأسمى في ابتغاء مرضاة الله جل جلاله.. إنه أفق حمل الأمانة الإلهية والتحرر من أسر الهموم الصغيرة وحمل الهموم الكبرى المتمثلة في إنقاذ الخلق كل ظلم وجور.. وهذا ما نطل عليه في هذا اللقاء ونحن نعيش مع أخينا الأستاذ الأديب إبراهيم رفاعة أجواء إحدى خالدات القصائد الحسينية، فتحت عنوان (قصيدة يقولها الشاعر لنفسه) كتب الحاج رفاعة يقول:
يتراءى من قراءة قصيدة اليوم أن قائلها قد قالها لنفسه في المقام الأول، ولم يكن نظره منذ بدء إنشائها إلى قارئ أو سامع، إنها من الشعر الذي يتغنى به صاحبه لبنه وبين نفسه، وهذا عادة ما يكون من أصدق الشعر، هموم قلب تدور داخل القلب، ومعاناة تنتج نوعاً من الدندنة الحزينة والأنين الشجي الممتد.
صاحب القصيدة غير محسوب في عداد الشعراء النكثرين من قول الشعر؛ إذ هو أدخل في سلك المعنيين بالعلوم الشرعية ممن لهم تذوق للأدب والشعر، إنه الشيخ عبد الأمير الأعسم الزبيدي النجفي المتوفى في منتصف القرن الثالث عشر تقريباً، بعد أن عاش في مدينة النجف ما يقارب السبعين عاماً.. رحمة الله عليه.
قصيدته الحسينية هذه قصيدة متميزة في شعر المراثي، ولقيت بعد نشرها إقبالاً وتفاعلاً، وغدت من ضمن الشعر الحسيني الذي ما يزال يناح به إلى اليوم على منابر النعي والبكاء، وقد أهلها لهذا الإنتشار والقبول: صدق ما فيها من عاطفة وشعور، وما تتصف به من سلالة المعنى وجمال الإيقاع، وعدت – من خلال واقعة خاصة يعرفها عارفوه – من المراثي المقبولة عند أهل البيت عليه السلام.
قد أوهنت جلدي الديار الخالية
من أهلها ما للديار وما ليه
ومتى ساء لت الدار عن أربابها
يعد الصدى منها سؤالي ثانيه
هذه أول قصيدة عبدالأمير الأعسم.. البالغ تعداد أبياتها أربعة وثلاثين بيتاً من الشعر، يدل لفظها وموسيقاها على تأمل حزين ينساب هادئاً كمجرى ماء يتسلسل باطمئنان، ثم تأتي القافية في آخر كل بيت متواشجة بالحس الآسي الحزين والجرس المتناغم الرنين، فإذا الياء المفتوحة والهاء الساكنة في القافية كأنها زفرة أنين يختم به الشاعر كل بيت من أبياته.
إن نور كربلاء الذي توقد به قلب الأعسم جعله يتجه – في البدء – إلى ديار آل محمد التي خلت منهم بعد مقتلة عاشوراء، واستشهد فيها رجال وفتيان وأطفال ليس لهم على وجه الأرض شبيه.
قلبه الخافق المهيم يعلم بما جرى على أهل الديار، لكنه يظل يسألها عن أهلها كمن لا يصدق ما جرى.. فما يسمع إلا صدى سؤاله يردده – بأسىً وشجن – صمن الدار!
قد أوهنت جلدي الديار الخالية
من أهلها ما للديار وما ليه
ومتى ساء لت الدار عن أربابها
يعد الصدى منها سؤالي ثانيه
هذا أول اللوعة والألم: ديار أهل البيت التي طالما كانت ملاذاً ومعاذاً لكل من تنوبه نائبة.. فإذا هي التي حلت بها النوائب والمصائب!
من هذا التضاد بين الماضي والحاضر ينطلق حس الشاعر ليتقط صوراً أخرى تنقل إلى القارئ والسامع الإحساس غير المعلن بالتحسر والغم والوجد، إن المقايسة بين الأمس واليوم – من خلال ظارهة التضاد – تسبغ على القصيدة شجن الظلامة ولوعة الفقد:
ولقد يعز على رسول الله أن
تسبى نساه الى يزيد الطاغيه
ويرى حسينا وهو قرة عينه
ورجاله لم تبق منهم باقيه
فجسامهم تحت السنابك بالعرا
ورؤوسهم فوق الرماح العالية
ويرى ديار أمية معمورةً
وديار أهل البيت منهم خاليه
وحتى إذا خاطب الشاعر مرتكب مجزرة عاشوراء: الشقي يزيد بن معاوية.. فإن التضاد يظل حاضراً في رسم المعنى، قال وهو يستذكر مقاتلة بني أمية لرسول الله فيما مضى:
تاللَه إنك يا يزيد قتلته
سراً بقتلك للحسين علانيه
ترقى منابر قومت أعوادها
بظبى أبيه لا أبيك معاويه
الشاعر عبدالأمير الأعسم يبكي في قصيدته حزناً ومواساة لأبي عبدالله الشهيد المستوحد المظلوم، إن باطن الشاعر يتنور ويتبلور بالبكاء وبفيض الدموع؛ إذ الدمعة عالم حي قائم بنفسه: يغسل ويطهر ويخفف وينور الأعماق السحيقة في الإنسان، نحن أيضاً نبكي مع هذا الباكي ذي الشجن الملتاع:
يا ابن النبي المصطفى ووصيه
واخا الزكي ابن البتول الزاكيه
ذكرنا بالعظمة الحسينية المتألهة، وبأنوار الخمسة الأصفياء أهله من أصحاب الكساء الذين اكتملت دائرتهم به سلام الله عليه:
يا ابن النبي المصطفى ووصيه
واخا الزكي ابن البتول الزاكيه
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة
لكنما عيني لأجلك باكيه
تبتل منكم كربلا بدم.. ولا
تبتل مني بالدموع الجاريه
وهذا نوع من البكاء نادر نفيس:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة
لكنما عيني لأجلك باكيه
لا طلباً لأجر على البكاء ولا انتظاراً لثواب، من مات أبوه الحنون العزيز لا يبكي عليه وينتحب إلا لأنه يحب أباه الراحل الفقيد، إنه البكاء على الحسين'>البكاء على الحسين لا لشيء إلا لأنه الحسين الجدير بالحب والبكاء.. دون أي رجاء لمنفعة دنيوية كانت أم أخروية، وهذه درجة وضاءة من الإخلاص في الحب.
إن رزية الشهيد الغريب المفجعة المروعة قد أنست الشاعر رزاياه الشخصية – كما إشراقة الشمس الساطعة: يتوارى معها نور الشمعة المضاءة في وضح النهار.
ويصدق الأعسم – وهو صادق في كل ما رأى من عاشوراء – حين يشعر ويدرك أن قضية كربلاء الحسين ستظل تملأ الحاضر كله، وتظل صابغة المستقبل بصبغتها الحمراء التي لا ينقطع نداؤها الى يوم قيامة موتى أهل الأرض للنشور والحساب:
أنست رزيتكم رزايانا التي
سلفت وهونت الرزايا الآتيه
وفجائع الأيام تبقى مدة
وتزول وهي إلى القيامه باقيه
وفي محكمة القيامة الكبرى – على أعين الخلق أجمعين – تحضر قضية كربلاء، هي أول ملفات هذه المحكمة وأخطر الملفات، الشاكية الآن: إمرأة جلالها من جلال الله.. يرضى الله إذا رضيت، ويغضب إذا غضب، إنها فاطمة الصديقة الزهراء أم الحسين المقتول وزوج الوصي وبنت النبي، هي من تتقدم بهيبة تطأطئ لها كل أهل القيامة.. شاكية إلى ربها تتظلم:
وإذ أتت بنت النبي لربها
تشكو ولا تخفى عليه خافيه
رب انتقم ممن أبادوا عترتي
وسبوا على عجف النياق بناتيه
واللَه يغضب للبتول بدون أن
تشكو فكيف إذا أنته شاكيه
فهنالك الجبار يأمر هبهباً
أن لا تبقي من عداه باقيه
وهبهب: بئر في قعر جهنم يعذب فيها الجبارون، إذا انفتح غطاؤها ضج أهل النار من حرارته وعذابه.
بهذه الصورة المهيبة الرهيبة يخرج عبدالأمير الأعسم من قصيدته.. ليظل قلب المرء مواجاً بجلال الرزية العاشورائية، ولينحاز من فوره الى نور الحق الأسطع الذي ينبثق من جراحات كربلاء.
وهكذا مستمعينا الأكارم تكون إنتقالة الباكين على الحسين من دائرة الهموم الشخصية الصغيرة الى الأفق الرحيب للهموم الكبرى التي ماج بها قلب أبي عبد الله الحسين – صلوات الله عليه – وهي الهموم المقدسة التي بحملها يدركون الفتح المبين ويلحقون بركب الأنصار الصادقين للآخذ بثارات الحسين، بقية الله وكشاف الكرب والبلوى الموعود بأن يزيل الله على يديه هموم البشرية جمعاء فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا.
ختاماً تقبلوا منا أيها الأطائب أطيب الشكر على طيب إستماعكم لحلقة اليوم من برنامجكم (نور من كربلاء) قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، دمتم بكل خير وبركة وأمان.