سلام من الله عليكم أيها الأطائب.. طابت أوقاتكم بكل خير ورحمة وبركات.. بتوفيق الله نلتقيكم في حلقة جديدة من هذا البرنامج فأهلاً بكم ومرحباً.
أيها الأفاضل.. من أنوار البكاء على مصائب كربلاء ما يزين الباكين على الحسين عليه السلام بقبسات من خصاله المحمدية الرائقة فيتحلون بقبسات من الشجاعة والبسالة والإباء والفداء وسائر الخصال الحسينية الغراء.. وهذا أمر طبيعي لمن أخلص في البكاء على الحبيب المشع بأسمى الجماليات إذ أن الدموع الصادقة تفتح القلب على حب خصال الحبيب الشهيد جمعاء وبالتالي تكون وقود تحرك دؤوب للتحلي بتلكم الخصال – من حيث يعلم الباكي ومن حيث لا يعلم -.
وهذا هو الموضوع الذي نتلمس بعض أبعاده في هذا اللقاء ونحن نسبر بعض ما كتبه أحد أعلام الأدب الحسيني كتب عنه أستاذنا الأديب الحاج إبراهيم رفاعة تحت عنوان (تطلع.. إلى ما فوق الحزن والدموع!) قال:
إذا تحدثت عن السيد حيدر الحلي.. تحدثت عن أشهر شعراء الأسى والثكل الحسيني في القرون الأخيرة، وهو المتقدم في حماسته الرثائية – أو رثائه الحماسي – على شعراء عصره جميعاً في العراق إبان القرن الهجري الثالث عشر، وقصائده الحسينية التي تبلغ ثلاثاً وعشرين قصيدة المقروءة في ديوانه.. ما يزال العديد منها يسمع بصوت شجي في مجالس العزاء والتفجع والبكاء في أيام المحرم من كل عام وفي غيرها من الأيام، سمة بارزة للسيد حيدر.. نابعة من صدقه وفوار حزنه ومتانة شعره، مما أمده الله تبارك وتعالى به من توفيق.
ليست قصيدته العينية هي الوحدية التي أسكنها حزنه المتصاعد وغيرته الهاشمية وثورته المحرضة، لكنها من أشهر قصائده ومن أسيَر شعره على منابر المناحة والرثاء.
منذ البدء يسكن الشاعر إحساس بالخلو والفقد.. حتى وهو يحكي عن الديار العافية والبروع التي ارتحل عنها أهلوها الأحباء، لا الربيع في هذه الربوع بربيع، ولا أنيس فيها من الأصحاب الذين تلتئم بهم مجالس الأنس، وترتاح إليها النفس:
قد عهدنا الربوع وهي ربيع
أين لا أين أُنسها المجموعُ
: شملها النوى صدعنه
إنّما شمل صبري المصدوع
سبق الدمع حين قلت سقتها
فتركت السما وقلت الدموع
هذه حادثة مؤسفة محزنة للقلب لكن الأوجع الأفجع حادثة أخرى غير فراق الأصحاب المؤانسين، ما راع قلب السيد حيدر.. أمر أجل من فقدان الأنيس الذي ألف مخالطته وأعظم، إنه أمر لا يصح – في رؤيته – أن يقابل إلا بالجزع، الصبر هنا لا يليق بجلالة ما حدث ولا يلائم عظم المصاب، حتى ماء العيون لا يكفي للتجاوب مع رزايا طف كربلاء:
لم يَرُعني نوى الخليط ولكن
من جوى الطف راعني مايروع
قد عذلت الجزوع وهو صبور
وعذرت الصبور وهو جزوع
عجباً للعيون لم تغد بيضاً
لمصاب تحمر فيه الدموع
وأساً شابت الليالي عليه
وهو للحشر في القلوب رضيع
إن حكى السيد حيدر عن الواقعة العاشورائية فإنه يلامس مآسي حوادثها ملامسة إشارية خفيفة ولا يوغل في التفاصيل، لكنه يتلقى هذه الملامسة بكثير من الألم الموجع وكثير من الغيظ الطافح بالغيرة على الحسين وآل الحسين، الحسين السيد البطل الفذ في ملحمة الملاحم هو مركز إشعاع بجلال عظيم.
معركته التي يخوضها مع جموع الأعداء ما تبدو لواصفها إلا مليئة بالعلو والعزم الغالب والرهبة المدهشة:
أيّ يوم رعباً به رجف الدهـ
ر..إلى أن منه اصطفقن الضلوع
يوم صكت بالطف هاشم وجه الـ
موت فالموت من لقاها مروع
موقف لا البصير فيه بصير
لاندهاش ولا السميع سميع
فلشمس النهار فيه مغيب
ولشمس الحديد فيه طلوع
أينما طارت النفس شعاعاً
فلطير الردى عليها وقوع
إنك لتحس في هذا الشعر من العزة والبسالة وعنفوان الشهامة الحسينية ما يملأ الصدر فخراً واعتزازاً بالإنتماء – بأي مرتبة – الى الحسين الوصف البطولي هذا يزخ في قلوب سامعيه طاقة من العزم والحزم والتماسك المجدول بلون من التعاطف القوي الحميم.
وإذا ما أراد الشاعر أن يحكي عن إحساسه بحضور فتيان آل محمد الرجال، يقودهم سيد الأسرة الوتر الفرد أبوعبدالله الحسين.. رأيت في تثويره – على شدة تركيزه وإيجازه – تجليات العزة الشامخة، والشجاعة الفذة التي لا تكون لغير الحسين، وصولات الشهامة التي لا تستطاع:
قد تواصت بالصبر فيه رجال
في حشى الموت من لِقاها صُدوع
سكنت منهم النفوس جسوماً
هي بأساً حفائظٌ ودروع
سد فيهم ثغر المنية شهم
لثنايا الثغر المخوف طلوع
طمعت أن تسومه القوم خسفاً
وأبى الله والحسام الصنيع
كيف يلوي على الدنية جيداً
لِسوى الله ما لواه الخضوع
فأبى أن يعيش إلا عزيزاً
أو تجلّى الكفاحُ وهو صريعُ
فتلقى الجموع فرداً، ولكن
كل عضو في الروع منه جموع
زوج السيف بالنفوس، ولكن
مهرها الموت، والخضاب النجيع
كان لابد للملحمة الجليلة من ختام: فرد مستوحد قباله عشرات الآلاف من السيوف والرماح والسهام التي اللؤم والغدر من أهون ما لأصحابها من أوصاف. صرع حبيب الله الحسين رجلاً لا كالرجال، وبطلاً فوق ما تحلم به آمال الأبطال، لكن المأساة لم تقف عند هذا الحد!
هذه بنات رسول الله وأطفال بيت الوحي والقرآن غدوا مستفردين مستوحدين، ما لهم من رجال آل محمد كافل ولا حمي، لو كان في القتلة الجناة بعض نخوة ووجدان لربما هان الأمر، لكنهم ما ازدادوا – بعد عظيم جنايتهم – إلا رجساً إلى رجسهم، وإلا شقاء فوق شقاء، إنهم يفرغون أحقادهم المتعفنة الآن على من أسروا من عيال آل محمد ومن سبوه أعنف سبي، لهذا المشهد – الذي يلهب غيرة من له غيرة – ثار السيد حيدر الحلي، إذ يتملى مشهد الأسر والسبي والشتم والضرب الجبان:
لو تراها والعيسُ جشّمها الحا
دي من السير فوق ما تستطيع
فترفق بها فما هي إلا
ناظرٌ دامعٌ وقلبٌ مروعُ
لاتسمها جذب البرى أو تدري
ربه الخدر ماالبرى والنسوع؟!
والبرى والنسوع هي قيود الحديد وحبال الأسر..
مشهد السبايا الفاطميات وسط زمر اللئام الأجلاف مشهد لا يحتمل، ولن يجدي البكاء عليهن ولا التأسف وضرب الجباه من شدة الغيظ والحنق، لا يرضى السيد حيدر – بشهامته العلوية – إلا بالإندفاع الى حرب شعواء للإنتقام والثأر للدماء المطولة المهدورة، ولهذه المذلة التي سيقت بها الفاطميات المروعات:
قوضي ياخيام عليا نزار
فلقد قوّض العمادُ الرفيع
ودعي صَكّةَ الجباهِ لويٌّ
ليس يُجديك صكُّها والدموع
أفلطما بالراحتين فهلا
بسيوف لا تنقيها الدروع
وبكاء بالدمع حزناً فهلا
بدم الطعن والرماحُ شروع
غيرة فوارة هي ما يعتمل في صدر السيد حيدر الحلي، وانتظار متوثب مترقب لساعة الحسم.
وبهذا يتضح مستمعينا الأفاضل، أن أبرز ما يثمره البكاء على المصاب الحسيني هو إيقاد أنوار الغيرة المقدسية على الحرمات الإلهية في قلوب الباكين على الحسين صلوات الله عليه، وهذه الغيرة القدسية هي التي تجعلهم الحماة الصادقين للدين الحق يحامون أبداً عنه ويسعون لتحكيم قيمه المقدسة في أنفسهم وفي الآخرين.
وبهذا نصل الى ختام حلقة أخرى من برنامج نور من كربلاء إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران.
شكراً لكم وفي أمان الله.