مستمعينا الكرام ، محبّي الأدب وعشّاق البلاغة !
ها نحن ذا نجدّد اللقاء بحضراتكم عند آفاق أخري من آيات الفصاحة والبيان في نهج البلاغة عبر برنامجكم علي خطي النهج ، آملين أن تمرّ عليكم هذه الدقائق مفعمةً بكلّ ما هو نافع وممتع في هذه المحطّة التي سنغذّ فيها السير بين مظاهر الإيجاز ونماذجه في النهج ، كونوا معنا ...
أعزّتنا المستمعين !
ومن جوامع كلمه سلام الله عليه في باب حكمه القصار التي ينطلق منها الفكر ليسوح في آفاق المعاني علي وجازتها واختصارها الشديدين والذي قد لا يتعدّي في بعض الأحيان الكلمتين ، قوله في أحوال الدنيا وأبنائها :
" إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .
المراد هنا بإقبال الدنيا على الإنسان أن ينال منها ما يُغبَط عليه ويحسد، والمراد بإعارته محاسنَ غيره أن يرفَع فوق منزلته، كمن ساد، وما هو بأهل للسيادة. وليس من الضروري أن تنسب اليه فضائل الآخرين، بل قد يكون ذلك، وقد لا يكون، والمعيار أن يقدّر بأكثر من ثمنه. والمراد بـ سلبته محاسن نفسه أن تبخس أشياؤه، فيهضم حقه ومقامه. والأمثلة على ذلكلا تحصى كثرة.
ومن أقواله الجامعة الموجزة في الكيفيّة والأسلوب الصحيحين لمخالطة الناس ومعاشرتهم :
" خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .
هناك فرق بعيد بين النفاق وحسن المعاشرة، فالنفاق أن تضمر البغض وتظهر الحب، أما حسن المعاشرة فهي أن تحسن ولا تسيء، تحب ولا تكره، تعين ولا تخذل.. وبهذا تكون محبوباً عند الناس يبكون عليك إن متّ، ويحنون إليك ان غبت.
وقال سلام الله عليه :
" إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْه .
لقد علّمتنا التجربة وتكرارها أشياء، منها أن من فرّ الى الله وقرع بابه مخلصاً أغاثه وشمله بعنايته، ومنها أن من شكر القليل من فضله تعالى زاده أضعاف، ومن رفضه وتبرم به طلباً للكثير عاقبه بالحرمان، و من أبى إلا القصاص بيده ممن أساء اليه تركه سبحانه وشأنه يشفي غيظه من عدوه ان استطاع، و منعفا عن حقه الخاص لوجه الله كان له ناصر، وعوّض عليه أضعافاً مضاعفة.
أعزّتنا المستمعين !
من المعلوم أن علماء البلاغة أحصوا للإيجاز في اللغة العربيّة نوعين هما : إيجاز القصر وإيجاز الحذف ، حول النوع الأول وهو إيجاز القصر في نهج البلاغة ، سألنا خبيرنا الأستاذ جعفر عساف الأستاذ في الحوزة العلمية من لبنان علي الهاتف ، فأفادنا قائلاً :
عساف: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. المتأمل في كلام امير المؤمنين في نهج البلاغة في خطبه وفي كلماته المتعددة نجد أن امير المؤمنين علي عليه السلام كان في قمة البلاغة والفصاحة، ومن جملة هذه البلاغة والفصاحة كلامه صلوات الله عليه المبني على الإيجاز. طبعاً علماء اللغة العربية وعلماء البلاغة قسموا الإيجاز الى قسمين، إيجاز قصر وإيجاز حذف وهذا ما نجده في كلام علي عليه السلام حيث نجد في بعض خطبه وفي بعض كلماته نجد إيجاز القصر يعني بمعنى أن تكون الكلمات قليلة والمعاني كثيرة من دون أي تغيير في المعنى. ومن جملة الأمثلة التي يمكن أن نشهدها ونجدها في كلام علي عليه السلام نلاحظ قول علي عليه السلام عندما يقول "إن الغاية امامكم وأن وراكم الساعة، خففوا فإلحقوا فإن ما ينتظر اولكم بآخركم" ففي هذا الكلام مع إختصاره مع قلة عدد ألفاظه نجد امير المؤمنين علي عليه السلام قد تحدث عن معاني كثيرة يحدث اصحابه عن صنيع الدنيا واجتماع الخلائق وايضاً يشير بهذه الكلمات القليلة عندما يقول "تخففوا تلحقوا" يشير الى الزهد في الدنيا وما فيها. كذلك من جملة كلام علي عليه السلام الذي فيه إيجاز القصر، عندما يتحدث عن الله عزوجل يقول "التوحيد أن لاتتوهمه والعدل أن لاتتهمه" نلاحظ أن هناك معاني كثيرة تنضوي تحت كلام علي عليه السلام عندما يقول التوحيد أن لاتتوهمه والعدل أن لاتتهمه يعني أن لاتتهم الله سبحانه وتعالى في عدله وأن لاتتهم الله سبحانه وتعالى في خلقه وأن لاتتهم الله سبحانه وتعالى في رزقه لعباده وأن لاتتهم الله سبحانه وتعالى في حسابه وفي يوم القيامة. لذلك الله سبحانه وتعالى في هذه الكلمات يصفه علي عليه السلام بكلمات قليلة ولكنها معاني كثيرة.
المحاورة: نتقدم بجزيل الشكر لسماحة السيد جعفر عساف الأستاذ في الحوزة العلمية من بيروت لإتاحته لنا هذه الفرصة.
مستمعينا الأحبّة !
ومن درر بلاغته عليه السلام الأخري ، وآيات إيجازه في القول و إكثاره من المعاني ، قولُه ضرورة عدم التفريط بالصديق والإخوان :
" أعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .
قالوا في تعريف الصديق وصفاته وأكثروا. والوصف الداخل في ماهيته أو اللازم لها هو أن الصديق حقاً هو من يرفض الشائعات عن صديقه حتى ولو كانعلى جهل بمصدره. فهذا الصديق ثروة وعدة في الدين والدنيا.
وإذا كان الإخوان أفضل قوة وثروة يقتنيها الإنسان فمن العجز أن يعيش الواحد منّا بلا أصدقاء، فإن ضيّعنا واحداً منهم بعد الظفر به فنحن أخسر الفاشلين، كما قال الإمام ، ثمّ لا متعة أعذب وأطيب من حديث تنفض به عن قلبك غبار الآلام و الأشجان أمام صديق يصغي اليك بروح زاكية تطمئن اليه، عاطفة دافئة تلجأ اليها.. ومن فقد متعة الإحساس بالصداقة فقد حرمه الله أجمل ما في الحياة، وإن كان يعيش حياة الترف والرخاء .
و قال عليه السلام في وجوب الشكر وعدم الجحود بنعم الله :
"إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّهِ الشُّكْرِ.
القصد هنا من أطراف النعم أوائلها والقليلُ منها، وأقصاها نموُّها وزيادته، المعنى ان الله سبحانه إذا أحدث لك نعمة فاحفظها وعظّمها بالشكر والتدبير، من أي نوع كانت وتكون، فإن حقرتها وقصرت في حفظها وشكرها سلبها الله منك، حرمك من غيره.
ومن جميل أقواله وطريفها :
" مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ
المراد بالمفتون هنا من فعل ما لا ينبغي فعله، والمعنى اذا رأيت شذوذاً منإنسان فلا تبادر الى لومه وعتابه قبل أن تعرف السبب الموجب لذلك، فابحث و انظر، فإن كان السبب مشروعاً كمن أكل من الميتة وسرق رغيفا لسد الجوعة فهو معذور إذا انحصر سبب الحياة بذلك ، إذ كان جاهلاً بلا تقصير، وإن كان لمجرد الهوى واللامبالاة بالدين والقيم فهو مأزور، وعلينا أن نرشده بالحسنى..
مستمعينا الأطايب !
كنّا قد سألنا خبير البرنامج سماحة السيد جعفر عساف الباحث الاسلامي والأستاذ في الحوزة العلمية من لبنان عن إيجاز القصر وأمثلته في نهج البلاغة ، وقد طلبنا منه أن يسلّط الضوء علي النوع الآخر من الإيجاز وهو إيجاز الحذف ومظاهره ونماذجه في نهج أمير المؤمنين سلام الله عليه ، فأدلي لنا بحديث في هذا المجال نسترعي انتباهكم إليه :
عساف: أما بالنسبة الى إيجاز الحذف الذي ورد في كلام علي عليه السلام وايضاً كما نعرف أن علماء البلاغة واللغة العربية قد قسموا إيجاز الحذف ايضاً الى ثلاثة أقسام، قد يكون الحذف حذف الاسم وقد يكون حذف حرف وقد يكون حذف جملة وطبعاً إشترطوا في حذف هذه الكلمات او الحروف او الجمل بشرط أن لايخل بالمعنى لذلك امير المؤمنين علي عليه السلام ايضاً نجد أنه استعمل هذا الأسلوب وكان هو السيد لهذا الكلام بل امير لهذا الكلام عندما يتحدث عن التقوى، يقول علي عليه السلام "إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض اجسادكم وسراح فساد صدوركم..." فنلاحظ علي عليه السلام استعمل إيجاز الحذف في هذا الكلام، عندما يقول فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم، بدلاً من أن يقول إن تقوى الله بصر عمى أفئدتكم وتقوى الله شفاء مرض اجسادكم وتقوى الله سراح فساد صدوركم فحذف هاتين الكلمتين لوجود دلالة عليها وهذا كان إيجاز حذف. وكذلك في بعض كلمات علي عليه السلام يقول "مالي أراكم أرواح بلا أشباح ونساكاً بلا صلاح وتجاراً بلا أرباح ...." فكان امير المؤمنين علي عليه السلام بدلاً من أن يغير هذه الحروف يقول مالي أراكم أرواحاً بلا أشباح ومالي أراكم نساكاً بلا صلاح ومالي أراكم تجاراً بلا أرباح فهو لن يكرر هذه الحروف وإنما إكتفى بالحرف الأول فقال مالي أراكم أرواحاً بلا أشباح ونساكاً بلا صلاح ... الى آخر كلامه صلوات الله وسلامه عليه.
المحاورة: نشكر بجزيل الشكر سماحة الشيخ جعفر عساف الباحث الاسلامي وأستاذ الحوزة العلمية من بيروت على هذه الإيضاحات وإتاحته لنا هذه الفرصة.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ترقّبونا في الحلقة القادمة من برنامجكم علي خطي النهج مع القسم الرابع والأخير من استعراضنا لمظاهر الإيجاز في نهج البلاغة ، شكراً لكم علي طيب المتابعة ، والشكر موصول أيضاً لخبير البرنامج الأستاذ جعفرعساف الاستاذ على المعلومات التي افادنا به على هذه الظاهرة البلاغية.
نستودعكم العلي القدير والى الملتقى.