البث المباشر

الجناس في نهج البلاغة– القسم ٤

الأربعاء 25 سبتمبر 2019 - 12:22 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- على خطى النهج: الحلقة 21

أحبّتنا المستمعين الأكارم في كلّ مكان !
تحيّة الإيمان والإسلام نبعثها لحضراتكم ونحن نعاود اللقاء بكم عند محطّة أخري من محطّات برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج ، والتي سنخصّصها للقسم الأخير من تتبّعنا لأسلوب الجناس واستخداماته بأنواعه في نهج البلاغة ، ندعوكم للمتابعـــة ....
أعزّتنا المستمعين !
ومن أنواع الجناس الأخري التي وظّفها أمير المؤمنين عليه السلام لتكريس الناحية الجماليّة في كلامه وزيادة التأثير بالتالي في نفس المتلقّي ، ما يعرف بالجناس المعكوس ، وهو تأخير اللفظ المقدّم وتقديم اللفظ المؤخّر . فهو – إذن – تكرار منتظم للألفاظ والحروف جميعاً و لذلك سمّي بالمعكوس ، وبعبارة أخري فإنه أن نعكس الكلام فنجعل الجزء الأخير منه ما جعلناه في الجزء الأول ، وله – كما يقول علماء البديع – في التجنيس حلاوة ويفيد الكلام رونقاً وطلاوة .
وقد كان جناس العكس من الأساليب التي لجأ إليها الإمام في إحداث التنغيم ، وأمثلته في نهج البلاغة كثيرة ، من مثل قوله في أحد كتبه إلي عاملع عبد الله بن عبّاس :
" أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ .
فلقد أخّر سلام الله عليه في صدر كلامه ماقدّم في لفظة ( درك ) وقدّم ما أخّر في لفظة ( فوت ) ، ممّا يعني تكراراً منتظماً أحدث معه إيقاعاً تستلذّه الأسماع ، وتنشدّ إليه النفوس . ومع ذلك فإن الإمام لم يكن يقصد إلي هذا الجرس في الألفاظ بقدر توخّيه المعني ، فهو ناتج ثتنوي عمّا يريده عليه السلام إظهارَه من دلالات هذا التقليب . فلقد أراد في النص السابق وصفَ حال تقلّب النفس الإنسانيّة بين المسرّة والرضا . ويبدو أن ابن عبّاس أدرك هذا المعني حين قال :
" ما انتفعتُ بكلامٍ بعد كلام الله تعالي مثل هذا الكلام .
ومثل هذا قولُ الإمام عليه السلام في بيان حال تقلّب الدنيا :
" ألا إنه قد أدبرَ من الدنيا ما كان مُقبِلاً وأقبل منها ما كان مُدبِراً .
وتبدو قوّة الجرس في هذا التجنيس ممتزجة من اللفظة المعكوسة ومن الاشتقاق أيضاً ؛ فلفظة ( أدبر ) أعيدت أصواتُها مشتقّة بلفظ ( مدبر ) فيما أعيدت كلمة ( مقبل ) بتكرار لفظة ( أقبل ) ، فكأن هذا الكلام يتضمّن نوعين من الجناس هما العكس والاشتقاق . ولا شك في أن في هذا الأسلوب الذي يستبطن التجنيسين مزيداً من التنغيم الذي يُسبَغ علي العبارة ، نحو قوله عليه السلام :
" استقبلوا مُدبِراً ، واستدبروا مُقبِلاً ، وقوله : " ... لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً ويصدعَ شعباً ويشعبَ صدعاً .
المحاورة: أيها الأخوة والأخوات حول مدى إسهام الصناعات البديعية عموماً والجناس خصوصاً في نهج البلاغة ودوره في تأثير تعميق المعنى في ذهن المتلقي ونفسه سألنا خبير البرنامج عبر الهاتف سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة فتفضل في هذا المجال قائلاً:
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين في مقام الجواب على هذا السؤال يسوقنا الموضوع الى جانب مهم وشاخص في حياة الامام علي بن ابي طالب سلام الله عليه والكفاءات التي كان يتمتع بها. نحن نعرف أن حضارة منطقة شبه الجزيرة كانت تتغنى بالأدب وتتغنى بجمال الكلام وتتغنى ببلاغة متفوقة لذلك خرج الامام علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليه على كل تلك الأجواء ليسكتها ببلاغته وببديع بيانه. طبعاً كان الامام بأبي هو امي يريد من ذلك إستيعاب ذهن المتلقي ويريد من ذلك امير المؤمنين أن يغير باطن الفرد تغييراً كبيراً لذلك كانت كلمات الامام سلام الله عليه لو أتيح لها أن تنتشر لكان لها الأثر الكبير في تغيير الطباع وتغيير ذلك الموروث الذي كان يعمل الامام امير المؤمنين على اصلاحه وحالة الإرتقاء التي كان يريدها امير المؤمنين من خلال إبداعاته البيانية في كلماته سواء كانت الكلمات القصار او في خطبه او في رسائله التي كان يكتبها او يبعث بها الى هنا وهناك، الى ذلك الوالي او تلك الشخصية او زعيم تلك القبيلة. كانت هذه الكلمات وهذه الابداعات لها القيمة الكبيرة عند العديد من المتلقين إلا أن يكونوا من بهم البشر فهؤلاء لانتحدث عنهم. لهذا ترك الامام امير المؤمنين من خلال إبداعه سواء بالمضمون او بالعبارة ترك الامام بصمة كبيرة لايستطيع ولم يستطع الأعداء محوها حتى هذا اليوم.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لسماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
مستمعينا الأطايب !
ومن بين أنواع الجناس المهمّة التي وردت علي نطاق واسع في نهج البلاغة لأمير المؤمنين سلام الله عليه ، ما أسماه علماء البديع بجناس الاشتقاق ، الذي هو عبارة عن اجتماع اللفظين المتجانسين في أصل الاشتقاق ، ويسمّي أيضاً ( المُقتَضَب ) .
وللاشتقاق دور بارز في تقوية رنين الألفاظ ، وكان هذا الأسلوب ممّا توافر في كلام أمير المؤمنين كلّه ، ويعد من أكثر أنواع الجناس وروداً في نهج البلاغة ، ومن نماذجه ماورد في كتاب له عليه السلام إلي أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلي البصرة :
" أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي خَرَجْتُ مِنْ حَيِّي هَذَا - إِمَّا ظَالِماً وإِمَّا مَظْلُوماً وإِمَّا بَاغِياً وإِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْه - وإِنِّي أُذَكِّرُ اللَّه مَنْ بَلَغَه كِتَابِي هَذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَيَّ - فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِي - وإِنْ كُنْتُ مُسِيئاً اسْتَعْتَبَنِي .
فقد جاءت الاشتقاقات ( ظالماً و مظلوماً ) و ( باغياً ، مبغيّاً ) ، وفي ذلك تكرار لمقاطع الصوت وتقوية لجرسها ، وقد بدأ الإمام بلفظ الظالم والباغي إبطالاً لحجّة خصمه في الادّعاء عليه عليه السلام بالظلم والبغي .
ويقع جناس الاشتقاق كثيراً في حِكَم الإمام عليه السلام وقصار كلمه من مثل قوله :
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق و " مَن صارعَ الحقَّ صرعَه .
وهو عليه السلام يقصد في كلّ ذلك إدخال هذه الموسيقي اللفظيّة لِما لها من تأثير في ترسّخها في الأذهان ، الأمر الذي يفسّر بقاء حِكَمه سلام الله عليه إلي اليوم لخفّتها علي الأسماع و رنينها الموسيقي المحبّب إلي القلوب . وبذلك يبدو أنّ لاسترجاع الصوت في التجنيس الاشتقاقي أثراً كبيراً في إسبغ الموسيقي علي الكلام ولذلك فقد كثر في استعماله استعمالاً ربط من خلاله الشكل بالمضمون من خلال الجرس .
المحاور: الجناس المضارع وهو ما اوكلنا الحديث عنه وذكر البعض من امثلته ونماذجه في نهج البلاغة الى خبيرنا وضيف حلقتنا لهذا اليوم سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة فلنستمع معاً الى حديثه:
الكشميري: الانسان المتتبع وخاصة صاحب الذوق الأدبي يرى أن هناك حالة تجانس بين السياق الذي استعمله امير المؤمنين والجناس الذي استعمله امير المؤمنين بالاضافة الى السجع في حالة النثر في بيانات الامام امير المؤمنين. الغاية من هذا، لايريد امير المؤمنين أن يتفنن بالجناس الكذائي والجناس الفلاني وإنما كان الامام يريد أن يستقطب العقلية لأنهم كانوا هم ضالعون بالأدب ومعجبين بالأدب لهذا استخدم الامام امير المؤمنين تلك الكلمات وطعمها سواء بالجناس او بالتشبيه الجميل. مثلاً عندما يتكلم الامام سلام الله عليه عن الدنيا "من بصر بها بصرته ومن أبصر عنها أعمته" يعني يطرح الامام الكلمات نفسها ولكن بحركة اعرابية يقلب المعنى رأساً على عقب. او احياناً يستعمل السجع مثلاً "إستغن عمن شئت تكن نظيره وإحتج الى من شئت تكن اسيره وأمنن على من شئت تكن اميره" أنظر الى الابداع في المعنى والابداع بالسجع. وهكذا يستمر الامام احياناً بضرب المثل عندما يخاطب ولده الامام الحسن طبعاً يخاطبنا نحن جميعاً "كن يابني كإبن اللبون لاظهر فيركب ولاوظر فيسلب ولاضرع فيحلب فكن مع الناس بحيث لاتعد وغب عن الناس بحيث لاتفقد". هذا الفن وهذا الجمال الذي يأتي صنواً مع المعنى ومع جمال الكلمة كان ثورة في عالم الأدب وفي عالم البلاغة التي ظهرت للأجواء الأدبية قديماً وحديثاً في بيانات امامنا امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
كلّ الشكر والتقدير لحضراتكم علي طيب متابعتكم لنا ، راجين منكم أن تكونوا بانتظارنا حتي الحلقة المقبلة عند جولة أخري بين رحاب نهج البلاغة عبر برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج ، حتي ذلك الحين دمتم في رعاية الله ، وإلي الملتقي .

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة