البث المباشر

التورية في نهج البلاغــــة

الأربعاء 25 سبتمبر 2019 - 12:38 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- على خطى النهج: الحلقة 23

مستمعينا الأكارم في كل مكان !
من دواعي سرورنا أن نجدّد اللقاء بكم مع ينابيع الفصاحة ومناهل البلاغة وموارد البيان البديع من خلال برنامجكم علي خطي النهج حيث نتفيّء ظلال نهج البلاغة وما يحفل به من بديع الكلام وجميل العبارة و روعة المضامين والمعاني ، ندعوكم لأن تكونوا برفقتنا ...
مستمعينا الأفاضل !
التورية وتسمّي أيضاً بالتوجيه والإيهام والتخييل والمغالطة ، ويراد بها إيراد الكلام محتمِلاً لوجهين مختلفين ؛ أحدهما قريب ، والآخر بعيد ؛ فالسامع يسبق فهمُه إلي القريب مع أن المراد هو ذلك البعيد ، فهو يحتاج إلي قراءتين : الأولي سطحيّة والأخري عميقة تُستجلَي منها الدلالة عن طريق التأويل معتمِداً السياق الذي يرجّح المعني الثاني لا الأوّل .
ومن ذلك قولُه سلام الله عليه من خطبة له يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض:
" فَسَوّى مِنْهُ سَبْعَ سَماواتٍ جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجا مَكْفوفا وَ عُلْياهُنَّ سَقْفا مَحْفوظا، وَ سَمُكا مَرْفوعا. بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُها، وَ لا دِسارٍ يَنْتَظِمُها، ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَهٍ الْكَواكِبِ، وَ ضِياءِ الثَّواقِبِ، وَ اءَجْرى فِيها سِراجا مُسْتَطِيرا، وَ قَمَرا مُنيرا، فى فَلَكٍ دائِرٍ، وَ سَقْفٍ سائِرٍ، وَ رَقِيمٍ مائِرٍ.
فالسراج في النص السابق له معنيان ؛ قريب ويعني المصباحَ الزاهر الذي يُسرَج بالليل ، وبعيد يتطلّبه السياق ، والمراد به الشمس التي تحوّل الليلَ إلي نهار . والجامع بين المعنيين أن كليهما يزيل الظلمة ويُضيء ما حوله ، لكنّ الأول يفتح كُوّة فيها والآخر يزيلها ويحوّل الليل إلي نهار ، ويبرز ذكاءُ المتلقّي لترجيح المعني البعيد اعتماداً علي خبرته وثقافته فضلاً عن سياق النص الذي يتطلّب هذا المعني .
مستمعينا الأفاضل !
للتورية كما هو حالب الأساليب البديعيّة الأخري أنواع حدّثنا عنها خبير البرنامج علي الهاتف الأستاذ علي العلي استاذ فلسفة القوانين والتشريعات من قم المقدسة
وأورد لنا بعض الأمثلة عليها ، نسترعي انتباهكم – أعزّتنا المستمعين – إلي هذا الحديث :
العلي: بطبيعة الحال اللغة العربية فيها الكثير من فنون الكلام وعرض الكلمة وكيفية بناء هذه الكلمة وكيفية إيصال المعنى وإعطاء الدلالات المطلوبة ومنها ما تفضلت به وهو التورية. اذا أردنا أن نتأمل في التورية بدقة هي تأتي من مصدر ورى. والتورية لغة عندما نقول تورية النار أي استخراجها ورى النار أي استخرجها وكذلك تورية الأرض أي إخصابها، التورية عن الصديق المرافعة عنه ولكن في البديع بدقة نستطيع القول لكي نقربها للمستمع هو أن يأتي بلفظ له معنيين او يعطي بعدين، معنى قريب ظاهر غير مقصود ومعنى بعيد خفي وهو المقصود. ربما هناك بعض الأمثلة وردت في الشعر العربي مثلاً نصير الدين الحمامي يقول:
أبيات شعرك كالقصور ولاقصور بها يعوق
ومن العجائب لفظها حر ومعناها رقيق
هنا رقيق لها معنيين، اذا نظرنا الى الشطر الثاني عندما يقول ومن العجائب لفظها حر ومعناها رقيق مباشرة المعنى القريب يتبادر أنه حر والرقيق يعني العبد المملوك ولكن عندما نتأمل المعنى الأبعد نجد المعنى من الرقيق هو الشفاف واللطيف والسهل لذلك ومن العجائب لفظها حر ومعناها رقيق، القريب هو العبد المملوك والبعيد يريد به الشفاف، السهل والبديع في هذا المعنى. أعطي مثالاً آخر سراج الدين في بيت يصف فيه ابو تمام يقول:
أصون أديم وجهي عن أناس لقاء الموت عندهم الأديب
ورب الشعر عنهم بغيض ولوى فبهم لهم حبيب
معنى الحبيب هنا القريب هو الحبيب العاشق ولكن هو لايقصد الحبيب وفي الواقع هو يقصد حبيب الذي هو أبو تمام فهذا ما يمكن أن نستخلصه في الاجابة عن هذا الموضوع فيما يتعلق بتقريب معنى التورية.
المحاورة: نتقدم بالشكر الجزيل للدكتور علي العلي الأستاذ في فلسفة القوانين والتشريعات من مدينة قم المقدسة.
ومن توريات الإمام (ع) الأخري ما ورد في جوابه للأشعث بن قيس وهو علي منبر الكوفة يخطب ، فمضي في كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه عليك لا لك ، فخفض عليه السلام بصرَه إليه ثم قال :
" ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! ‏حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر!...
فقوله ( حائك ابن حائك ) تحتمل معنيين ؛ الأوّل قريب ويعني الصفة المعروفة، والآخر بعيد يراد به الكذّاب أو النمّام أو ناقص العقل ؛ فالسامع سواء كان الأشعث أم غيره يتوهّم أن الإمام يقصد المعني القريب ، لأن الأشعث وأباه وكلّ أهل اليمن يعيَّرون بالحياكة ، ولكنّ موقف الإمام من العمل يجعلنا نؤوّل كلامه ليصبح تورية ، وهو موقف تداولي يعتمد علي ثقافة المتلقّي في تأويل الكلام اعتماداً علي قرائن مقاليّة تتمثل في عبارة (منافق ابن كافر) وحاليّة تداوليّة تتمثّل في موقف الإمام من العمل .
المحاور: من المعلوم مستمعينا أن أسلوب التورية ينطوي على الكثير من القيم الجمالية والمعنوية والأغراض التي من شأنها أن تعزز الكلام وأن ترفع من مستواه الفني، هذه القيم والأغراض حدثنا عنها ضيف حلقتنا لهذا اليوم على الهاتف مستشهداً بذلك ببعض الأمثلة والنماذج من نهج البلاغة. تفضلوا بالاستماع الى حديث فضيلة الشيخ الدكتور علي العلي أستاذ فلسفة القوانين والتشريعات من مدينة قم المقدسة.
العلي: طبعاً اذا نتأمل بدقة الى معنى التورية كما ذكرنا وبينا نستطيع أن نقول هو الأسلوب البديع الذي يضيف على المعنى غموضاً لايصل الى حد الإبهام وإنما اذا وفقنا في التحليل وخضنا في كشف الظاهر وبيان المخفي بمعنى نضيف الى المعنى غموضاً لايصل الى حد الإبهام لأن نعطي بعداً ظاهرياً يخفي من خلاله التجلي الحقيقي لما نريد أن نثيره في الذهن وطبعاً في نهج البلاغة الكثير من هذه الأمور وردت مثلاً هناك رواية والنساء سيحملون علينا حملة كبيرة يقول "المرأة شر كلها إلا أنه شر لابد منه" هو لايقصد كل المرأة لأنه يشمل مصاديق كثيرة مثلاً آسية امرأة مزاحم، السيدة خديجة الكبرى، السيدة فاطمة الزهراء هنا يقصد بها امرأة معينة لذلك هذه فيها دلالة واضحة. حتى كما يصفون المرأة ناقصة عقل ودين وكذا وهذه ايضاً لها تحليلات معينة نستطيع أن نعطيها هذه الأبعاد. في بعض الكتب الأخرى التي وردت ايضاً في نهج البلاغة وكما في شرح النهج او غيره مثلاً امير المؤمنين له وصف مثلاً في كتاب ابراهيم الثقفي في الغارات سأله أحدهم والمعروف أن علي بن أبي طالب كانت له حرب كبيرة في صفين وغيرها وكان كلهم يدعي أنه من الصحابة، سأله أحدهم كما ورد في كتاب ابراهيم الثقفي الغارات الجلد الأول صفحة مئة وسبعة وسبعين قال حدثنا عن أصحابك؟ قال أي أصحابي؟ قال أصحابي محمد صلى الله عليه وآله. قال كل أصحاب محمد أصحابي. من الواضح عندما يتأمل هذا الموضوع مجرد أن تسمع اصحابي فقطعاً علي بن أبي طالب لايقصد الزاني ولايقصد شارب الخمر ولكن يقصد من كان هو محوراً من اصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله. كذلك عندما يتكلم عن الطوسي وردت في حياة القلوب فيها اشارة الى هذا الموضوع، قال علي بن ابي طالب "أوصيكم بأصحاب رسول الله لاتسبوهم فإنهم أصحاب نبيكم واصحاب الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً ولم يوقروا صاحباً ببدعة، نعم اوصاني رسول الله بهؤلاء" واضح من يريد ومن يقصد بهذا الأمر. كذلك هناك أمثلة كثيرة على هذا الموضوع وربما لدلالاتها واضحة في هذا الأمر لذلك كل من يسمع هذا الموضوع يجب أن يعلم أن المراد من التورية ليس هو المعنى الفقهي الذي يراد والذي يستخدم للتقية او يتوارى عن الموضوع لا، إنما يعطي دلالة لمعنيين، معنى قريب يتبادر للمقابل ومعنى بعيد فيه دلالة يعني عندما أقول حبيب كما في بيت الشعر فقط الذي يعرف حبيب بن أوس وعلاقة سراج الدين الوراق به يعرف هذا الموضوع بينما الآخر يتصور أنه العاشق او مثلاً يقول حر ومعناها رقيق في بيت نصير الدين الحمامي ايضاً يتبادر الى الذهن مباشرة الى المعنى القريب ويتصور الى قبال الحر وهو العبد ولكن الشاعر بقصد ما ورد في السهل والشفاف. ولكن ايضاً وردت في القرآن الكريم "هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم في النهار" المعنى البعيد هو إرتكاب الذنوب وهو معرفته بما تقومون به وهو معروف معرفته بالحق طبيعي ومعرفته بالباطل اذا وقعت بالباطل ففي هذه دلالات، ما جرحتم تشمل الأمرين الفعل الطيب والفعل السيء لذلك هذه دلالات موجودة وهذا يبين عظمة اللغة العربية. لكن توظيف اللفظ على أنه المعنى الفقهي لربما يلتبس على البعض ويتصور أنه لاتوجد في كلمات النهج مثل هذا الاستدلال ولكن الكلمات النهج تخضع لكل قواعد اللغة بل هو امام اللغة بلاشك.
المحاورة: مستمعينا الأفاضل نتقدم بالشكر الجزيل لسماحة الشيخ علي العلي أستاذ فلسفة القوانين والتشريعات من مدينة قم المقدسة لإتاحته لنا هذه الفرصة وندعوكم لمتابعة برنامج على خطى النهج.
أحبّتنا المستمعين !
وقال عليه السلام من حكمة له :
" مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ .
فمن المعلوم أن ( اليد القصيرة ) و ( اليد الطويلة ) لم يرد بهما المعني القريب الظاهر ، لأنّها أسندت إلي العطاء الذي يؤثّر في معني اليد بوصفها جارحة ، لتصبح رمزاً للكرم وطيب النفس وحبّ الآخرين ونوال الثناء والثواب الذي يكون أكثر المعاني المرجّحة المقصودة لدي الإمام وما عداها فهو تابع لها ، وذلك اعتماداً علي الثقافة الإسلاميّة للمخاطب ، وهنا يذكر عليه السلام لازم المعني القريب المورّي به لتحقيق ما يسمّي بـ " التورية المرشّحة " ، وسمّيت مرشّحة لتقويتها بذكر لازم المعني القريب غير المراد فإنها تزداد بذكره إيهاماً ، ليزداد التأثير في المتلقّي عندما ينتقل من المعني غير المراد القويّ الظاهر إلي المعني الباطن المراد .
وفي خطببته المعروفة بالشقشقيّة ورّي عليه السلام عن الخلافة وأحقيّته بها بتعبير " الرّحي " فقال سلام الله عليه :
" مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى .
فكلمة ( الرّحي ) هاهنا لها معنيان ؛ القريب هو الإشارة إلي حجر الطاحونة ، والبعيد هو الخلافة ، ومن البديهي أن مراد الإمام المعني الثاني وهو مكانته من الخلافة .
وقال عليه السلام في ذمّ أهل البصرة وموقفهم في حرب الجمل مستخدماً أسلوب التورية في ذلك :
" كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ .
فللبهيمة هنا معنيان قريب وهو الحيوان أو الجمل ، وبعيد وهو صاحب الجمل ، وكأنه أراد أن يقول لهم إنكم كنتم تابعين لأصحاب الجمل .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
بهذا نصل بكم إلي ختام جولتنا لهذا الأسبوع بين رياض البيان في نهج البلاغة عبر برنامجكم علي خطي النهج ونحن علي موعد معكم بإذن الله عند أسلوب آخر من أساليب البلاغة وروعة البيان في كلام أمير المؤمنين ، شكراً لكم علي طيب المتابعة ، وإلي الملتقي . 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة