المقدمة
يبقى صوت سفير الحسين الثقة الواثق مسلم بن عقيل، هادراً في سماء التأريخ تتجلى فيه قيم الاباء المحمدية والشجاعة العلوية والحماسة الحسينية، يوم إرتجز بوجه عساكر الطاغوت قائلاً:
أقسمت لا أقتل الا حرا
وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أضربكم ولا أخاف ضرا
فعل غلامٍ قط لن يفرا
ولا اقيم للأمان قدرا
كل أمرئٍ يوما ملاقٍ شرا
وكل ذي غدرٍ سيلقى غدرا
أيضاً ويصلى في الجحيم حرّا
السلام عليكم – إخوتنا المؤمنين الموالين – ورحمة الله وبركاته..
وأحسن الله لنا ولكم الأجر في مصابنا بالحسين وآل الحسين صلوات الله عليه وعليهم، الذين خلّفوا لنا تراثاً باعثاً على الفخر والاعتزاز، وكان منه أراجيز في الشهامة والبطولة ألقوها في ساحة الشهادة فخلدت في ضمير التاريخ ألواح عز وكرامة.
والرجز أيها الاخوة الأعزة – كما عرفه أهل اللغة والادب: هو بحر من بحور الشعر، ونوع من أنواعه، يكون كل مصراع ٍ منه منفرداً بنفسه، وهو أخف من القصيدة على اللسان، فالارجوزة – وجمعها أراجيز – هي كهيئة السجع الا أن لها وزن شعرٍ خفيفاً، بسبب الحركات التي يتخللها السكون المتعاقب لها، لذا يكون نظمه سهلاً، وانشاده سلساً، وقد زاد الاقبال عليه لكثرة ما أجيز فيه… فيمكن للراجز أن يأتي به مجزوءاً، أو مشطوراً، أو منهوكاً، أو مقطوعاً… فهو يلائم كل الأذواق، ويناسب جميع الاغراض، ومنها: المفاخرة والمناجزة في ساحة القتال.
اخوتنا العزة..لما كان الاسلام دعوة إلهية أرادت للناس الخير ودعتهم الى الصلاح، وقد واجهت سيوف الكفر والشرك والنفاق، كان لا بد لهذا الدين من دفاع عن نفسه وعن أتباعه، فصنعت السيوف والى جنبها اتخذت وسائل عديدة لمواجهة المعتدين على رسالة الحق ورسولها، وذلك أئتمارا بقوله تعالى " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الانفال ٦۰ )، فجاءت كلمة (قوة) منكرة، تعني أي قوة هي مبلغ ما يبلغه المؤمنون من القوى يرهبون به عدو الله وعدوهم، وقد كان من تلك القوى التي تلقى في ساحة المعركة وساعة المواجهة الحاسمة الشعر، وسهله هو الرجز، فمن خلاله يستطيع كل مسلم يحسن العربية أن يأتي به معبراً عن غايته الدينية، مقرناً ذلك بعزته وابائه، واصراره على نصرة دين الله بدمه وروحه…كما تسنى ذلك للمسلمين الأوائل ووافقته سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقيل الرجز في معارك الاسلام وحروبه، وكان له دوره في اظهار شموخ الاسلام وعزة المسلمين الذين برزوا يحققون أهداف الرسالة مرهبين أعداء الله بجملة من الوسا ئل.
فقد روى الواقدي وغيره أن هنداً أمرأة أبي سفيان خرجت تنشد رجزاً تقول فيه:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
والمسك في المفارق
والدر في المخانق
وذلك في معركة أحد، فعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سيفاً ونادى: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فتقدم فلان وفلان فأعرض عنهما، حتى قال أبو دجانة: أنا يا رسول الله، آخذه بحقه.فدفعه إليه، فما رئي أحد يقاتل أفضل من قتاله عندها، وكان قد اعتم بعمامة حمراء أرخى عذبتها بين كتفيه وجعل يتبختر بين الصفين، ويختال في مشيته، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: " ان هذه المشية يبغضها الله عزَّ وجلَّ إلا عند القتال في سبيل الله"
وفي رواية أخرى: " ان هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموطن"
وقد هزَّ أبو دجانة سيفه في ساحة المنازلة وهو يرتجز قائلاً:
أنا الذي عاهدني خليلي
أن لا أقيم الدهر في الكبول
أضرب بسيف الله والرسول
وكان من مقدمات واقعة كربلاء اخوتنا الأكارم أن الامام الحسين ـ عليه السَّلام ـ بعث الى أهل الكوفة سفيره وثقته مسلم بن عقيل ـرضوان الله عليه ـ ليأخذ عليهم العهود، فكان ما كان من خذلان الناس له وانصرافهم عنه، والغدر به، ولم يجر يوماً ولا ساعةً في خلد "مسلم" ان يستسلم، وهو الأبي الشجاع، وسليل الشجاعة، هو حفيد أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ الذي حمى لوحده رسول الله ورسالته يوم انقض المشركون عليهما ناوين ابادتهما، وقد روى ابن أبي الحديد في( شرح نهج البلاغة ) أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: "لو ولد أبوطالب الناس كلهم لكانوا شجعاناً"
فماذا ينتظر من مسلم؟ لا والله إلا الشجاعة والمواجهة وإن كان وحده، وعدوه كان جحافل تتري، لكنه حارب في ازقة الكوفة وهو يرتجز ويقول:
أقسمت لا أقتل إلا حراً
وان رأيت الموت شيئاً نكراً
أضربكم ولا أخاف ضرا
فعل غلام قط لن يفرا
ولا أقيم للامان قدراً
كل امرئٍ يوماً ملاقٍ شراً
وكل ذي غدرٍ سيلقى غدرا
أيضاً ويصلى في الجحيم حرا
فقدم مسلم بن عقيل ـ رضوان الله عليه ـ اباءه على الإستسلام، فهو اسمى من أن يتنازل عن كونه حراً عزيزاً لا يذل حتى لو اختار الموت المرير، فهو متقدم في مقابلة العدو يضرب بسيفه ولا تحدثه نفسه قط بالفرار، كما لا تمنيه أبداً بالأمان، فهو لا يستوحش من لقاء الموت الذي لا بدّ منه، فإن كان لا بدّ من الصبر والتسليم لقضاء الله تعالي، وهو ـرضوان الله عليه ـ القائل حين هجم عليه جيش عبيدالله بن زياد ـ كما روى ابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب):
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع
فأنت بكأس الموت لا شكّ جارع
وصبراً لأمر الله جلّ جلاله
فحكم قضاء الله في الخلق ذائع
وتلك عقيدة المسلم، وقد تجلّت في أولياء الله كمسلم، فإن كانت الحياة لا بدّ أن ينقضي أجلها فلتكن الخاتمة بعزٍّ وشرفٍ وكرامة، ولتكن شهادةً تحلّق فيها الروح إلى رحاب رضوان الله تعالي، وليخسأ الغَدَرةُ الذين سيفدون على ربّهم مقمحين، يساقون زمراً إلى حرّ الجحيم.
وكانت لمسلم، نفثة أسف في أبيات رواها أبو مخنف في (مقتل الحسين عليه السَّلام) قال فيها بعد أن صلّى ركعتين قبيل أن يضرب عنقه جلّاده على سطح قصر الإمارة:
جزى الله عنّا قومنا شرّ ما جزى
شرار الموالي بل أعقَّ وأظلما
هم منعونا حقَّنا وتظاهروا
علينا وراموا أن نذلَّ ونرغما
أغاروا علينا يسفكون دماءنا
ولم يرقبوا فينا ذماماً ولادما
فنحن بنو المختار لا خلق مثلنا
نبيٌّ أبت أركانه أن تهدّما
وفي ختام هذا اللقاء نشير اجمالاً الى أهم القيم الإلهية التي سجلها رجز سفير الحسين ـ عليه السَّلام ـ الثقة الواثق مسلم بن عقيل سلام الله عليه ـ وهي:
أولاً: إن الحرية الحقيقية تتمثل في رفض جميع أشكال الإستعباد الطاغوتي وترجيح الموت بعزة على الحياة بذلة وهذه أقوى علائم الإيمان الصادق.
ثانياً: إن الأمان الحقيقي هو للنفس المطمئنة المبتغية لرضا الله عزَّ وجلَّ، وليس الأمان الحق في الإستسلام لإرادة الطواغيت.
ثالثاً: وفي رجزه ـ عليه السلام – المتقدم نبؤة من عالم الغيب صدقها الواقع حيث أشار الى أن أعداءه سيلقون عذاباً في الدنيا جزاء غدرهم به وهذا عذاب في الدنيا يتلوه العذاب الأكبر في الآخرة... وقد نزل هذا العذاب في ثورة المختار الثقفي بكل الذين غدروا بمسلم بن عقيل ـ سلام الله عليه.
والى هنا ينتهي أيها الأخوة و الأخوات لقاؤنا بكم في أولى حلقات برنامج هدير الملاحم من إذاعة طهران تقبل الله أعمالكم والسلام عليكم.