الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن محمد بن مُطهر الحلي رضوان الله عليه (648 ـ 726 هـ). الفقيه والمتكلم إلامامي، تصدّى للمرجعية الدينية في زمانه، كان العلامة أول من لقب بآية الله؛ وذلك لفضله وعلمه الكثير، فمن جملة أساتذته: السيد ابن طاووس، والخواجة نصير الدين الطوسي، وابن ميثم البحراني، ومن أشهر تلامذته: قطب الدين الرازي، وفخر المحققين، وابن معية، ومحمد بن علي الجرجاني. من أعمال بارزة أدى مناظرته الشهيرة مع علماء المذاهب الأربعة أدت إلى تشيّع السلطان محمد خدا بنده المغولي وكان سبباً لنشر وترويج المذهب الشيعي في إيران.
وللعلامة الحلي وصايا جميلة تنبئ عن مقامه الشامخ وحمله للروح الصافية الطيبة التي تحبّ الخير لكلّ من يحمل معه صفة الانسانية.
فمنها : ما أوصى به ولده فخر الدين عند إتمامه كتاب قواعد الأحكام، قال:
اعلم يا بنيّ أعانك الله تعالى على طاعته، ووفقك لفعل الخير وملازمته، وأرشدك إلى ما يحبّه ويرضاه، و بلّغك ما تأمله من الخير وتتمنّاه، وأسعدك في الدارين، وحباك بكلّ ما تقرّ به العين ، ومدّ لك في العمر السعيد، والعيش الرغيد، وختم أعمالك بالصالحات، ورزقك أسباب السعادات، وأفاض عليك من عظائم البركات، ووقاك الله كل محذور، ودفع عنك الشرور.
انّي لخصت لك في هذا الكتاب لبّ فتاوى الأحكام، وبيّنت لك فيه قواعد شرائع الإسلام، بألفاظ مختصرة وعبارة محررة، وأوضحت لك فيه نهج الرشاد وطريق السداد.
وذلك بعد أن بلغتُ من العمر الخمسين، ودخلت في عشر الستين، وقد حكم سيّد البرايا: بأنها مبدأ اعتراك المنايا، فإن حكم الله تعالى علىّ فيها بأمره، وقضى فيها بقدره، وأنفذ ما حكم به على العباد الحاضر منهم والباد.
فإني أوصيك – كما افترض الله تعالى علىّ من الوصية وأمرني به حين إدراك المنيّة – بملازمة تقوى الله تعالى، فإنها السنة القائمة، والفريضة اللازمة، والجنة الواقية، والعدّة الباقية، وأنفع ما أعدّه الإنسان ليوم تشخص فيه الأبصار، ويعدم عنه الأنصار.
عليك باتباع أوامر الله تعالى، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يكرهه، والانزجار عن نواهيه، وقطع زمانك في تحصيل الكمالات النفسانية، وصرف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلمية، والارتقاء عن حضيض النقصان إلى ذرورة الكمال والارتفاع إلى أوج العرفان عن مهبط الجهّال، وبذل المعروف، ومساعدة الإخوان، ومقابلة المسيء بالإحسان والمحسن بالامتنان.
وإياك ومصاحبة الأرذال، ومعاشرة الجهّال، فانها تفيد خلقاً ذميماً، وملكة ردية.
بل عليك بملازمة العلماء ومجالسة الفضلاء، فإنها تفيد استعداداً تاماً لتحصيل الكمالات، وتثمر لك ملكة راسخة لاستنباط المجهولات ، وليكن يومك خيراً من أمسك.
وعليك بالتوكل والصبر والرضا، وحاسب نفسك في كل يوم وليلة، وأكثر من الاستغفار لربك، واتق دعاء المظلوم خصوصاً اليتامى والعجائز، فإن الله تعالى لايسامح بكسر كسير.
وعليك بصلاة الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله حثّ عليها وندب إليها وقال: من ختم له بقيام الليل ثم مات فله الجنة.
وعليك بصلة الرحم، فإنها تزيد في العمر.
وعليك بحسن الخلق، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.
وعليك بصلة الذرية العلوية، فإن الله تعالى قد أكّد الوصية فيهم وجعل مودتهم أجر الرسالة والارشاد.
فقال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى»(الشورى: 23..)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند المضيق، ورجل أحبّ ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعي في حوائج ذريتي إذا طرّدوا وشرّدوا.
وقال الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أيها الخلائق انصتوا فإنّ محمداً يكلّمكم، فينصت الخلائق، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله فيقول: يا معشر الخلائق من كانت له عندي يد أو منّة أو معروف فليقم حتى أكافيه، فيقولون: بآبائنا وأمهاتنا وأيّ منّة وأيّ معروف لنا، بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق، فيقول: بلى من آوى أحداً من أهل بيتي أو برّهم أو كساهم من عرى أو أشبع جائعهم فليقم حتى أكافيه، فيقوم أُناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله: يا محمّد يا حبيبي قد جعلتُ مكافاتهم إليك، فأسكنهم من الجنة حيث شئت، فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحجبون عن محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم.
وعليك بتعظيم الفقهاء وتكريم العلماء فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من أكرم فقيهاً مسلماً لقي الله تعالى يوم القيامة وهو عنه راضٍ، ومن أهان فقيهاً مسلماً لقى الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان. وجعل النظر إلى وجه العلماء عبادة، والنظر إلى باب العالم عبادة، ومجالسة العلماء عبادة.
وعليك بكثرة الاجتهاد في ازدياد العلم والفقه في الدين، فإن اميرالمؤمنين عليه السلام قال لولده: تفقّه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الطير في جو السماء والحوت في البحر، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به.
وإياك وكتمان العلم ومنعه عن المستحقين لبذله، فإن الله تعالى يقول: «إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»(البقرة: 159)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله. وقال عليه السلام:لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
وعليك بتلاوة الكتاب العزيز، والتفكر في معانيه، وامتثال أوامره ونواهيه، وتتبع الأخبار النبوية والآثار المحمدية، والبحث عن معانيها واستقصاء النظر فيها، وقد وضعت لك كتباً متعدده في ذلك كله.
هذا مايرجع إليك.
وأما مايرجع إليّ ويعود نفعه عليّ فإن تتعهّدني بالترحم في بعض الأوقات وأن تهدي إليّ ثواب بعض الطاعات، ولا تقلل من ذكري فينسبك أهل الوفاء إلى الغدر، ولا تكثّر من ذكري فينسبك أهل العزم إلى العجز، بل اذكرني في خلواتك وعقيب صلواتك، واقض ما عليّ من الديون الواجبة والتعهدات اللازمة، وزر قبري بقدر الإمكان، واقرأ عليه شيئاً من القرآن، وكلّ كتاب صنّفته وحكم الله تعالى بأمره قبل إتمامه فأكمله، وأصلح ما تجده من الخلل والنقصان والخطأ والنسيان.
هذه وصيتي اليك والله خليفتي عليك ، والسلام عليك ورحمة الله و بركاته. (قواعد الأحكام 2 / 346 و 347 .)
المصدر: مختلف الشيعة تأليف أبو منصور الحسن بن يوسف بن مطهر الأسدي الحلي ( العلامة الحلي ) 648 – 726 هـ ) الجزء الأول صفحة 150 .تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
الاجتهاد