لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا من اليه يهرب الخائفون، يا من اليه يفزع المذنبون، يا من اليه يقصد المنيبون، ...)، هذه الفقرات وما بعدها من مقطع الدعاء تتميز بكونها متجانسة في دلالاتها وصياغة عباراتها، فالهرب والفزع والقصد تعبيرات متماثلة، والخائف والمذنب والمنيب تعبيرات متماثلة في دلالاتها التي تحوم على من يتعامل عبادياً ولكنه غير مطمئن الى ذلك كصدور الذنب، او حدوث الخوف العبادي حتى من غير ذنب.
المهم، يتعين علينا ان نحدثك عن العبارات المتقدمة، ونبدأ ذلك بعبارة: (يا من اليه يهرب الخائفون)، فماذا نستلهم منها؟
الخائف نمطان، احدهما: من مارس ذنباً وخاف الله تعالى من معاقبته، أو على العكس من هو خائف من ممارسة الذنب بل من هو خائف حيال عظمته الله تعالى ومهابته، وهذا يجسد درجة عالية حيث وصف القرآن الكريم هذا التصرف بقوله تعالى: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ». وفي الحالتين، فان الهروب الى الله تعالى في هذا الميدان يعكس درجة عظمته تعالى في رعايته لعباده، بصفة ان من يهرب من ذنبه أو تصوره ويتجه الى الله تعالى، فان هذا تعبير عن ثقة الخائف من ربه بربه، وهو قمة ما نتصوره من الثقة برحمته تعالى، حيث لا حدود لرحمته، انها مطلقة.
اما العبارة الثانية فهي: (يا من اليه يفزع المذنبون)، فتختلف عن سابقتها بانها تتحدث عن المذنب، بينما تتحدث سابقتها عنالخائف، فما هو الفارق بينهما؟
قلنا ان الخائف يشمل المذنب ويشمل المطيع الذي يخاف مقام ربه وعظمته تعالى، بينما العبارة الثانية خاصة بالمذنب فحسب، وهذا ما يجعل الموقف مختلفاً عن سابقه في طبيعة العبارة التي قالت: (يا من يفزع اليه المذنبون)، فالفزع هو حالة شديدة من الخوف وليست الخوف العادي، ولذلك تجانست مع شخصية الذنب، لان المذنب يفزع او يخاف بشدة من عواقب سلوكه، كما هو واضح.
ونتجه الآن الى العبارة الثالثة، بعد ان عرفنا الفارق بين الخائف والمذنب، ونتساءل الآن عن دلالة العبارة القائلة: (يا من اليه يقصد المنيبون). فماذا نستخلص منها؟
الانابة هي الرجوع الى الله تعالى في أمور العبد، وهي درجة عالية من الوعي العبادي، فكما ان الخائف بمعنى الخائف حيال عظمة الله تعالى ومهابته، فان المنيب الى الله تعالى يحمل درجة وعي عالية، والفارق هو: ان المنيب الى الله تعالى يحمل دجة وعي عالية، والفارق هو: ان المنيب لا يرتبط سلوكه بالذنب وعدمه، بل بأمر آخر هو: رجوعه الى الله وتسليم اموره اليه تعالى وبهذا يختلف ايضاً عن الخائف مقام ربه، حيث يعني الاخير النظر الى عظمة الله تعالى، والى ثقته بالله تعالى. من هنا، عبر النص عن هذه الدلالة بعبارة: (يا من اليه يقصد المنيبون)، فالقصد هنا هو غير الهرب وغير الفزع، بل هو لجوء الى الله وثقة به في تسيير امور عبده.
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا من اليه يرغب الزاهدون)، فماذا نستلهم منها؟
هذه العبارة بدورها تشترك مع سابقتها وتفترق عنها، انها متفقة في التوجه الى الله تعالى، ولكن التوجه يختلف من عبد الى آخر، فالبعض هارب، والآخر يفزع والثالث قاصد، اما الرابع هنا فهو (راغب)، ترى مالفارق بين القاصد والراغب؟
الجواب: ان الرغبة هي ميل كبير الى الشيء، فاذا نقلناها الى الرغبة نحو الله تعالى، حينئذ فان الدلالة تتضح تماماً وهي سمة تتوافق مع (الزاهدين)، ان الزاهد بالحياة الدنيا لا بد ان يكون على العكس من الحياة الآخرة ومالك يوم الدين، اي: الزهد في الدنيا تقابله: الرغبة في الآخرة، وهذا يعني: الرغبة في الله تعالى، وهذا ايضاً يفسر لنا سببية الربط بين الراغب الى الله تعالى وبينالزاهد على النحو الذي اوضحناه.
*******