من البيّن أنّ المعصومين (عليهم السلام) ينهلون من منبع واحد، ولذلك تتماثل أساليبهم في النصوص الواصلة إلينا، سواء أكان التماثل في صياغة العبارة لفظياً أو دلالياً أو حتى في نطاق العبارة المتكررة، أي: ما نلاحظه مثلاً من نص مشترك بين هذا المعصوم أو ذاك، المهم أن قارئ النصوص الشرعية ومنها النصّ المرتبط بالأدعية يظلّ بدوره خاضعاً لما أوضحناه من التماثل أو التكرار أو العبارة الاستقلالية الخاصة بهذا المعصوم أو ذاك.
وفي ضوء الحقيقة المتقدمة، نبدأ بتقديم ما ورد عن الزهراء (عليها السلام) من نصوص الدعاء، حيث إنها (عليها السلام) مثل سائر المعصومين ورد عنها أكثر من شكل فني، كالحديث والدعاء والخطبة، وما دمنا نتحدث عن الدعاء، إذن نقتصر في حديثنا على هذا الجانب، ونبدأ بإلقاء الإضاءة على أدعيتها، ومن ذلك الدعاء الوارد في تعقيب صلاة العصر، حيث يبدأ على النحو الآتي: يبدأ الدعاء المذكور على هذا النحو: (سبحان من يعلم جوارح القلوب، سبحان من يحصي عدد الذنوب، سبحان من لا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء).
نقف أولاً عند العبارة الاستهلالية وهي (سبحان من يعلم جوارح القلوب)، ترى ماذا نستلهم منها؟ الجارحة من حيث اللغة قد تستخدم مجازياً حقيقياً، ولكن في نطاق ما نلحظه في الدعاء وسياقه الخاص، نجد أن الاستخدام الفنيّ او الصوريّ أو البلاغيّ أو ما يطلق عليه في المصطلح الحديث عبارة (الانزياح) ونحو ذلك ممّا يشير الى استخدام الكلمة في عدولها عن الأصل الى ما هو مجاز. وفي ضوء هذه الحقيقة نجد أنّ الجارحة، وتُجْمَعُ على جوارح تعني من حيث الأصل العضو، أي أعضاء الجسم، ولكن تعني ايضاً السكين وتعني: ما ينزف من العضو أو ما يصيبه من الأذى. ولكن في الحالات المتقدمة يظلّ التعبير المذكور واقعياً، بينما نجد أنّ النصّ الشرعيّ قد استخدمه صورياً، أي معدّلاً من اللغة الأصلية الى التصويرية او المجازية.
ويلاحظ أنّ القرآن الكريم قد استخدم هذه العبارة المعدّلة أو الانزياحية عبر ما نلاحظه من عبارة (الاجتراح للسيئات) وهو تعبير يتجانس مع الأصل لأنّ الجرح هو أذىً للجسم، وبذلك يكون بدوره أذىً للسلوك، أي بما أنّ المطلوب من الانسان أن يكون سلوكه العباديّ سليماً، حينئذ إذا مارس مثلاً معصية يكون بذلك قد جرح سلوك الطاعة. والسؤال الآن: كيف نستطيع التدليل على أنّ المقصود هنا هو ما ذكرناه من الدلالة؟
لو دققنا النظر في العبارة الثانية من الدعاء لوجدناها على هذا النحو: (سبحان من يحصي عدد الذنوب)، إذن الذنوب هي المقصود من عبارة (الجوارح) أو (جوارح القلوب) ولعلّ النكتة الفنية هنا هي أنّ النص قد انتخب جارحة القلب وليس سائر الاعضاء البدنية، وذلك لأنّ القلب هو مصدر السلوك السليم أو العكس، وبذلك يتجانس ما انتخبه النصّ من عبارة (الجوارح) مع (القلوب) لأنها أي القلوب هي التي تدفع الشخصية الى ممارسة الذنب او الطاعة.
إذن نستخلص مما تقدم، بأن الله تعالى مطّلع على القلوب، وأن ما تمارسه من النوايا أو الاعمال التي تتقاطع مع ما ينبغي عليه من السلوك (أي الطاعة)، بحيث تتجه إلى ما لا يرضى الله تعالى، وهو أمر يقتاد قارئ الدعاء إلى أن يتداعى بذهنه إلى الذكرى التي تنفع المؤمنين، أي عندما يستحضر قارئ الدعاء أنّ الله تعالى مطّلع على ما نجترحه من الذنوب، حينئذ فإنّ القارئ للدعاء يتعظ دون أدنى شك، ويتذكر ضرورة أن يقلع من الذنب، ومن ثمّ يتجه الى ممارسة الطاعة.