نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، منها: دعاء الامام المهدي (عليه السلام) في تعقيبه لصلاة الفطر، حيث حدثناك عن مقاطع منه، وانتهينا الى احد مقاطعه الذي ورد فيه: (اللهم اني أسألك ان تجعل فيما شئت، ...)، الى ان يقول: (ان تقوي ضعفي وان تغني فقري، وان تجبر فاقتي، ... الخ)، هذا المقطع من الدعاء امتداد لفقرات سابقة، حدثناك عنها، اما الان فنتابع فقرات المقطع، ومنه عبارة: (تقوي ضعفي) وعبارة: (تجبر حاجتي)، فماذا نستلهم منها؟
يلاحظ ان مقطع الدعاء يستخدم عبارات تركيبية من خلال نكات دلالىية خاصة، فمثلاً: المألوف ان يقال (اغنني) و(قوني)، ولكن النص قال: (تغني فقري) و (تقوي ضعفي)، ولاول وهلة لا يلتفت قارئ الدعاء العادي الى نكتة العبارة، ولكنه ينتبه على ذلك حينما يدقق النظر حيث يجد ان اغناء الفقر وتقوية الضعف ينطوي على نكات خاصة، منها: ان الفقر بعامة والضعف بعامة ليسا عيبين او شدتين سلبيتين بل انهما ممدوحان في سياقات خاصة، ولطالما اشارت النصوص الشرعية الى ان الفقر زينة وان شدائد الحياة من مصلحة العبد، ولكن في الان ذاته، ينبغي ان نصطنع فارقاً بين فقر يحجز الشخصية عن ممارسة وظيفتها الطبيعية او ضعف يحجزها كذلك وبين ما لا يحجزها عن ذلك وهو: الكفاف من حيث الرزق والتوازن او الصبر العادي من حيثالضعف، وبكلمة اكثر وضوحاً ان (الفقر) اذا اجبرناه بشيء من السعة يصبح مدعاة للدعاء بتوسعة الرزق وفي هذا الميدان يقال(اغن فقري)، اي: اجعل فقري مصحوباً بشيء من الغنى مقابل من يطلب الغنى مطلقاً، وهكذا بالنسبة الى الضعف حيث توسل الدعاء بالله تعالى بان يجعل ضعفه مصحوباً بشيء من القوة حتى يصبح أهلاً للتحمل اي: ليس القوة مطلقاً بل الضعف الذي تنتشله القوة دون ان تزيله، وهذه هي كما نحتمل ما نستخلصه من العبارتين المتقدمتين، ومما يسعفنا على ذلك هو ملاحظة العبارة الثالثة القائلة: (واجبر فاقتي) فالفاقة هي الحاجة وعندما يقول النص (اجبر) هذه الحاجة فمعناه اجعلها منجبرة، كما تجبر العظم الكسير حيث ان عملية الجبر تظل عنصراً مساعداً: كما هو واضح.
بعد ذلك نواجه عبارات جديدة منها: (وان ترحم مسكنتي، وان تعز ذلي وان ترفع ضعفي، ... الخ)، هذه النماذج من التعبيرات تتماثل مع سابقاتها في جعل الظاهرة السلبية مرتفعة من خلال الاضفاء الايجابي عليها، على نحو ما سنوضحه الان. الفقرة تقول: (وان ترحم مسكنتي)، المسكنة هي درجة اقوى من الفقر حيث تشير النصوص اللغوية الى ان الفقير هو من لا يسأل، اما المسكينفهو الذي يسأل اي: انه اشد حاجة من الفقير، والمهم: ان الدعاء المذكور توسل بالله تعالى بان يضفي الرحمة على مسكنه قارئ الدعاء بان يحقق له اشباعاً يرفع حاجته الشديدة الى السؤال.
بعد ذلك نواجه عبارتين، احداهما تقول: (وان تعز ذلي) اما الثانية فتقول: (وان ترفع ضعفي)، هنا نتساءل: هل يقصد بذلك ان يزال الذل والضعة بنحو مطلق حتى ولو كان الذل في سياق خاص ممدوحاً كقوله تعالى: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»، أو قوله تعالى:«أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ»، اي: السؤال من جديد: ما هي مواطن العز ومواطن الضعة؟
ان الاسلام كما ورد في النصوص لا يسمح للعبد بان يذل نفسه حيث فوض الله تعالى المؤمن كل شيء الا اذلال نفسه، ولكن الاذلال للمؤمن اي: النزول الى ادنى درجات المحبة والخدمة، ... الخ يظل محكوماً بالايجابية، والامر كذلك بالنسبة الى الضعة بمعنى التواضع اما الصفة بمعنى الدونية فلا يرضاها الاسلام ايضاً لان الاحساس بالدونية يسلخ الشخصية من الثقة بنفسها، ولكن الضعة بمعنى التواضع يظل هو المطلوب: كما هو واضح.
اذن السياقات المتنوعة في ميدان السلوك تظل خاضعة لجملة أحكام يتفاوت تقويمها بحسب ما اوضحناه، ختاماً نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الوظائف العبادية وان نتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******