نتابع احاديثنا عن أدعية الإمام المهديّ (عليه السلام)، حيث حدثناك عن احد ادعيته التي تقرأ في حرم الامام الحسين (عليه السلام)، وقد ورد ما يأتي: (اللهم جلّلني بنعمتك) ، الى ان يقول: (وباعدني من مكرك و نقمتك، ...) . هذه الفقرة نبدأ فنحدثك عنها الآن.
ان (النقمة) و (المكر) نمطان من التعامل مع المنحرفين، واحدهما غير الآخر بطبيعة الحال، اما النقمة فهي: المكافأة بالعقوبة، واما (المكر) فهو: معاقبة بدوره ولكنه من خلال سدّ الحيلة التي يمارسها المنحرف فيمكر به الله تعالى، فمثلاً عندما اراد ألمنحرفون قتل عيسى، شبّه تعالى لهم ذلك ورفعه الى السماء، او عندما وضعوا ابراهيم (عليه السلام) في المحرقة، حولها تعالى الى برد وسلام، وهكذا.
والمهم بالنسبة الى قارئ الدعاء، فان فقرة الدعاء تستهدف التوسل بالله تعالى بان يجعل عبده بمنأى من ان ايّ سلوك يستدعي عقوبة دنيوية او اخروية او كليهما من خلال الانتقام والمكر.
بعد ذلك تواجهنا فقرة: (اللهم اعصمني من الزلل، وسددّني في القول والعمل، وافسح لي في مدّة الأجل، واعفني من الاوجاع والعلل، و بلغّني بمواليّ وبفضلك افضل الأمل) .
هذا مقطع كامل تتظمنه خمس عبارات مقفاة، اي: منتهية بحرف اللام في صيغة (فعل) والمهم هو: أن الفقرات المسجوعة هنا من حيث اشتراكها في الايقاع المذكور تنطوي على تلاحم عضوي في بناء المقطع، مع انه يتناول ظواهر تبدو وكأنها متباعدة ولكنها - وهذا هو طابع النصوص الشرعية- متجانسة كما سنرى.
ان كلاّ من العبارة الاولى والثانية مرتبطة بالاخرى بنحو متنام اي: الثانية نمو عضويّ للأولى، حيث ان التوسل بالله تعالى بأن يعصم قارئ الدعاء من (الزلل) انما يقتاده بذلك الى ممارسة السلوك الصائب ألا وهو: السداد في القول وفي العمل.
وقد يتساءل قاري الدعاء: ما هي النكتة الكامنة وراء التوسل بالله تعالى بان يسددنا في القول والعمل دون أن يكتفي مثلاً بسداد العمل؟
واضح، ان الانسان من الممكن ان يعظ الآخرين، كأن يحذرهم من اللغو او الكذب أو الخيانة او الاغتياب الخ، ولكنه يقع في المفارقات المذكورة من حيث السلوك العملي، وهذا من المفارقة بمكان كبير لبداهة ان الآخر عندما يلاحظ تضاداً بين القول وبين العمل، حينئذ لا تدخل العظة الى قلبه، واما من زاوية صاحب العظة، فان امثلة هذه الشخصية تشير النصوص الى انها اشد الناس ندامة يوم القيامة، حيث نجد بخاصة انّ من وعظته قد أثيب على ذلك، بينما صاحب العظة يعاقب على ذلك، وهذا هو احد مواقع المفارقة السلوكية، بالاضافة الى أنّ امثلة هذه الشخصية تظل (من زاوية الصحة النفسية) متسمة بالمرض النفسي الذي يحوم على (الانا) من خلال تقمصه شخصية المتعالى في سلوكه على الآخرين.
بعد ذلك نواجه فقرة: (وافسح لي في مدة الأجل) . وهذه الفقرة تعد امتداداً لسابقيتها، حيث ان المباعدة عن نقمة الله تعالى ومكره، والتقرب الى الله تعالى من خلال السداد في القول والعمل تتطلبان زمناً تستطيع الشخصية من خلالها أن تسابق ألى الخيرات وتودي وظيفتها العبادية بالأحسن من العمل (كما ورد النص القرآني الكريم بذلك). مع ملاحظة انّ الفسح في مدة الأجل تسمح ليس للملتزم بتكثير طاعته، بل ايضاً تسمح (وهذا هو المهمّ) بان يتلافى العاصي ذنوبه، فيتوب ويملأ الأجل المفسوح له بالطاعة، وهذا هو الفوز دون ادنى شك.
اذن امكننا ان نتبين الخيوط الرابطة بين العبارات المتقدمة، سائلين الله تعالى ان يجعلنا من الملتزمين بذلك، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******