البث المباشر

شدة الاوامر الالهية لخلفاء الله واولياءه (عليهم السلام) بألتزام العفو في التعامل مع الناس

الأربعاء 19 يونيو 2019 - 10:00 بتوقيت طهران

الحمد لله الذي جعل بينه وبين عباده سفراء، وبعث الي الناس من عنده رسلاً وأنبياء، فكانوا له في أرضه خلفاء، وعلي عباده أمناء، ثم جعل من بعدهم هداة أوصياء.
لقد تجلت الرحمة الالهية في كل شيء، وكان أبهي صورها في الانبياء والرسل والأوصياء، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام. ومن مظاهر الرحمة الالهية ذلك العفو الرباني الرحيم، خلقا من أخلاق الله جل وعلا غمر به الخلق ودعا اليه، وأثاب عليه ومن هنا يخاطبه الامام زين العابدين (عليه السلام) بدعائه في أسحار شهر رمضان: "اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنا، فإنك أولي بذلك منا"، ونقرأ في دعاء الجوشن الكبير: "يا من لا يرجي إلا فضله، يا من لا يسأل إلا عفوه" ويكفينا قول أحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام): "إن عفو الله لا يشبهه شيء!".
أجل، وقد أمر الله تبارك وتعالي عباده المقربين، من الانبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، أن يعاملوا الناس بالرفق، ويقابلوهم بالصبر والحلم والاحسان، وأن يعفوا عنهم فيما يبدر منهم والأنبياء والمرسلون،وكذا الأوصياء الهادون، هم أولي من غيرهم بالتخلق بأخلاق الله جل وعلا. فعفوا، ثم دعوا الملأ الي ذلك، حتي قال عيسي ابن مريم (عليهما السلام): "صلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم، وأحسنوا إلي من أساء إليكم، وسلموا علي من سبكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم كما أنكم تحبون أن يعفي عن إسائتكم، فاعتبروا بعفوا الله عنكم".

*******

وعندما نرجع الى مضامين الايات الكريمة والاحاديث القدسية نلاحظ بوضوح شدة الاوامر الالهية لخلفاء الله واولياءه (عليهم السلام) بألتزام العفو في التعامل مع الناس فكيف نفسر شدة هذه الاوامر؟ الاجابة عن هذا السؤال هي محور الحديث الهاتفي التالي لضيفنا الكريم في هذه الحلقة من برنامج خلفاء الله وهو السيد علي الموسوي الباحث الاسلامي من مملكة البحرين:
السيد علي الموسوي: اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم صلي على محمد وآل محمد وعجل فرجهم.
فيما ذكرتم من سؤالكم شدة الاوامر الالهية لخلفاء الله واولياءه بألتزام العفو بالتعامل مع الناس، العفو كما يوضحه ارباب اللغة وهو فيما يعرف انه من انبل الصفات والممارسات فقال اهل اللغة في لسان العرب كما يقوله ابن منظور العفو وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه واصله المحو والطمس وهذا ما يعرف بالعفو، الله تبارك وتعالى شدد على هذه الصفة وامر اولياءه والخلفاء والقيادات الالهية من انبياء واوصياء فيما امر به النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) امر بملازمة العفو فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» ثم ذكرت آيات عديدة في كتاب الله وهي تلزم وتذكر الصفات الالهية ان من ابرز صفات الله تبارك وتعالى هو العفو ثم قال: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ» ويقول: «فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ» ويقول: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا» ويقول: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا» هذه الصفة الاخلاقية التي يريدها الباري تبارك وتعالى في اولياءه، في الممارسة العملية في الوسط الاجتماعي انها تحقق مكاسب اجتماعية واخلاقية بما يظهر المجتمع الايماني بالصورة المتماسكة التي لاتتقطع فيه الاواصر ولاتحدث فيه الخصومات ولا تستديم القطيعة وان ممارسة العفو هي ممارسة اولية احترازية في عدم تحقق حالة العداوة والقطيعة بين المؤمنين ولذلك هي امتداد هذه الصفة للكثير من المرتكزات والاسس الاخلاقية في النفوس وكما نلحظ ايضاً ان العفو يندرج تحت عناوين اربعة مختصرة نقولها ان افضل صور العفو وممارسته تكون في القدرة، ان الانسان اذا كان مقتدراً مع قدرته اذا احكم السيطرة، اذا تغلب طرف على طرف هذا المتغلب يظهر حالة العفو وهو ما يظهر علو شأنه ولذلك نلحظ جملة من اقوال امير المؤمنين (سلام الله عليه) وهو يقول: "الصفح ان يعفو الرجل عما جني عليه ويحلم عما يغيضه" وقال:"عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو"، هذا قول امير المؤمنين (سلام الله عليه) ثم الممارسة الثانية للعفو وهي تغليب حالة العفو على الشهوات اي على شهوة الثأر ان هناك نفوس بطبيعتها انها تغلب حالة الغضب وتريد ان تنتقم وتريد ان تثأر ومن هنا تظهر فضيلة هذا الانسان حينما يتغلب على شهوة الثأر بالعفو ولذلك قال امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه "لا يقابل المسيء بأفضل من العفو عنه"، ثم هناك ممارسة ثالثة للعفو وهو ان العفو يظهر حالة العقل وتحكيم العقل وعدم تحكيم الحالة الرديئة التي هي تفقد حالة العقل عند الانسان، عند الرجل مهما بلغ في فتوته وفي قدراته المادية كذلك هناك حالة ثالثة للعفو وهو ان العفو لا يعني كف الغضب فحسب وانما هو محو كل الاثار المترتبة على ذلك الذنب المرتكب في حقه، انظر الى امامنا علي بن الحسين زين العابدين (سلام الله عليه)، اهل البيت يرون لنا حديث عن رسول (صلى الله عليه وآله) يقول: "تخلقوا بأخلاق الله"كما ان الامام زين العابدين يجسد هذا المعنى في مناجاته، في دعاءه، له دعاء (عليه السلام) حينما يعتدي عليه احد وهو يدعو له، ماذا يقول امامنا علي بن الحسين صلوات الله وسلامه عليه وهو يتحدث عمن ارتكب في حقه خطأ؟
يقول: "واعفو له عما ادبر به عني ولا تقفه على ما ارتكب في ولا تكشفه عما اكتسب بي واجعل ما سمحت له من العفو عنه وعوضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم رحمتك حتى يسعد كل واحد منا بفضلك وينجو كل منا بمنك"، يا الله ما هذا السمو الانساني الالهي الرفيع والمتمثل والممارس من قبل امامنا زين العابدين وسيد الساجدين صلوات الله وسلامه عليه اذن هذه الصفة صفة العفو لا ترتسم الا على الشخصيات الكبار، الا على الانفس الانسانية الرفيعة العالية والاولى بها والاجدر بها وهم اولياء الله وخلفاءه في ارضه ولا سيما نبينا الاعظم (صلى الله عليه وآله) الذي قال لمشركي مكة "اذهبوا فأنتم الطلقاء واليوم يوم المرحمة" هذا هو نداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمن اخطأ في حقه، عمن اجرم في حقه، عمن آذاه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله والحمد لله رب العالمين ونسأل الله ان يجعلنا واياكم من اهل العفو ومن اهل الصفح ومن اهل المغفرة.

*******

نتابع أحباءنا تقديمها لكم والحديث فيها عن خلق (العفو عن الناس) وتمثل العفو كخلق من أخلاق الله جلت رحمته، في الأنبياء والمرسلين خلفاء الله تعالي، بل وتجلي في أخلاق سيدهم وخاتمهم رسول الله المصطفي (صلي الله عليه وآله) حتي وصف بالحلم والعفو، والصبر والصفح، فكان أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة، وكان أعدل الناس وأرأفهم وأعطفهم، فلم يجز بالسيئة سيئة، ولكن كان يغفر ويصفح، ولم يجف أحد، بل يقبل معذرة المعتذر. ويوم فتح مكة قال لعمه العباس بن عبد المطلب: تقدم إلي مكة فأعلمهم بالأمان وقد عهد (صلي الله عليه وآله) الي المسلمين ألا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، وتبرأ من فعله خالد بن الوليد يوم قتل اثنين في طريقه: فإذا وقع ظالموه (صلي الله عليه وآله) في أسره نادي عليهم: ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟!
فقالوا نظن خيراً، ونقول خيراً. أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.
فقال لهم (صلي الله عليه وآله): فإني أقول كما قال أخي يوسف: «قَالَ لاَ تَثرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
ومع أهله وخدمه وأصحابه، كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) رحيماً رؤوفاً، عفوا، يغض طرفه الشريف عن التقصير معه والإساءة إليه، ويعفو عمن أهمل حقه أو تماهل في خدمته، ويسامح المخطئ، فإذا أراد أن يعاتب كان منه التنبيه والاشارة اللطيفة، والتلميح الشفاف والتلويح من بعيد، حتِّي قيل في وصف بعض خلقه: ما نهر خادماً قط، ولا ضرب أحداً قط، ولا عاتب علي تقصير.
وغاب خادم له نصف اليوم وكان أرسله في حاجة، فإذا عاد لوّح له النبي في وجهه بالسّواك يهدده بلطف وذاك أنس بن مالك خادمه يقول: أرسلني النبي ّ في حاجة فانحرفت إلي صبيان يلعبون في السّوق، فإذا برسول الله قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك ويقول: يا أنس! اذهب حيث أمرتك. وهكذا يستر العفو النبويّ الجميع، وتشمل الرحمة النبوية الجميع، فيكون خلقه سننا للرحمة والأمان في حياة الأمة علي مدي أجيالها.
وإذا كان العفو سجية طيبة، وخلقاً كريماً، تجسد في رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فمن يا تري أولي به بعده؟ أليس الأولي به خلفاءه وأوصياءه، علياً وآل علي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذين نخاطبهم في بعض زياراتنا لهم، فنقول: "السلام عليكم آل رسول الله، أشهد أنكم قد بلغتم، ونصحتم، وصبرتم في ذات الله، وكذبتم، وأسئ إليكم، فغفرتم".
وأما أبوهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقد ضرب العفو به مثلاً سامقاً، روي ابن أبي الحديد في شرحه نهج البلاغة، وابن شهر اشوب في (مناقب آل أبي طالب) أن أبا هريرة قد تكلم في الإمام علي (عليه السلام) بسوء حتي أسمعه، ثم جاء في اليوم الثاني يسأله حوائجه، فقضاها الأمام علي (عليه السلام)، فسأله أصحابه في ذلك، فقال (عليه السلام): "إني لأستحييأن يغلب جهله علمي، وذنبه عفوي، ومسألته جودي".
وكان من كلامه (عليه السلام) مشفوعا بآهات: "إلي كم أغضي الجفون علي القذي، وأسحب ذيلي علي الأذي، وأقول: لعلّ وعسي؟!"
ويبلغ العفو عند أمير المؤمنين (عليه السلام) مبلغاَ يمنيّ به قاتله لو سلم من ضربًته، ومبلغاً يؤمل به ويرخّص فيه، فروي أن كان من وصيته وهو في ساعاته الأخيرة مسجّي علي فراش الشهادة قوله: فإن أصح فأنا ولّي دمي، إن شئت أعفو: وقوله لولده الحسن المجتبي: "يا بنّي، أنت وليّ الأمر بعدي ووليّ الدم، فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة بضربة، ولا تأثم". وكاد (عليه السلام) أن يعفو، لو لا الأجل المحتوم!
وخلاصة ما تقدم هي أن العفو والترفع عن الأحقاد والانتقام الشخصي من أخلاق خلفاء الله الصادقين فهم (عليهم السلام) أمناء الله في تربية عباده وهدايتهم الي سبل الفوز والفلاح لا يطلبون لذلك منهم أجراً ولا يريدون منهم شكوراً يعفون عن أساءاتهم تأديباً لهم ويصفحون عنهم الصفح الجميل لكي يتعرفوا علي أخلاق ربهم الكريم الذي يدعونهم الي عبادته.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة