الحمدُ للهِ وليِّ النّعَم والآلاء، وأشرفُ صَلَواتِه علي حبيبِه المصطفي خاتمِ الأنبياء، وعلي آلهِ الأئمةِ الأوصياء.
إنّ الوجود الذي نعيشُه مبنيٌّ علي الرحمة الإلهية، تلك الرحمة التي لا يستطيع العقلُ تصوُّرها، حيث يصِفها أمير المؤمنين (عليه السلام) في أوّل دعائه المعروف بـ "دعاء كميل" متوسّلاً بها، فيقول: (اللّهمّ إنّي أسألُك برحمتِك الّتي وَسِعَت كلّ شيء)، وحيث جاء بيانُها في دعاء الجوشن الكبير الذي يقرأ في أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك وليالي القَدر الشريفة، وقد هَبَط به جبريلُ الأمين، علي النبيّ (صلّي الله عليه وآله) الطاهرين، فكانت إحدي فقراتِه المئة هذه المناجاةُ الشريفة: (يا من لا يُرجي إلاّ فَضلُه، يا من لا يُسألُ إلاّ عفوُه، يا مَن لا يُنظَرُ إلاّ برّهُ، يا من لا يُخافُ إلاّ عدلُه، يا من لا يدومُ إلاّ مُلكه، يا من لا سلطانَ إلاّ سُلطانُه، يا من وَسِعت كلّ شيءٍ رحمتُه، يا مَن سَبَقَت رحمتُه غَضَبَه).
أجل، وهو القائلُ جلّ وعلا في مُحكمَ كتابه الحكيم: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ» (الأعراف، ۱٥٦).
«وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام، ٥٤).
أجَل، فقد أوجَبَها تبارك وتعالي علي نفسه المقدّسة، وهي لا تنفك في أفعاله عن كونِِها مُعَنونةً بعنوان الرحمة، بل وأدّب عليها حبيبَه المصطفي (صلّي الله عَليه وآله)، فأمَرَه أن يتلطّفَ بالمؤمنين ويسلِّمَ عليهم، ويبشِّرَ تائبيهم بمغفرةِ الله تعالي ورحمته، كي تطيبَ نفوسُهم، وتطمئنَّ قلوبُهم وهكذا كان خلفاءُ الله، متخلّقينَ بأخلاق الله، من العطف والرحمة والرأفة، وكان أظهَرهم في هذه الصفات الشريفة رسول الله (صلّي الله عليه وآله)، إذ يكفيه شهادةُ القرآنِ الكريم له، في قوله تبارك شأنُه: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» (التوبة، ۱۲۸).
*******
هذه الآية الكريمة تحدد في الواقع بعض صفات خليفة الله الكامل المصطفي (صلي الله عليه وآله) جارية في المرتبة اللاحقة في أئمة عترته الطاهرة (عليهم السلام) لتدل الناس علي أنهم هم خلفاء الله ورسوله الصادقون (عليهم السلام).
في الفقرة التالية لسماحة السيد عبد السلام زين العابدين الاستاذ في تفسير القرآن في الحوزة العلمية من مدينة قم المقدسة:
السيد عبد السلام زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه الاية المباركة، الاية قبل الاخيرة من سورة التوبة، تعرفون سورة التوبة جاء فيها تشريعات الحرب والقتال والمعاناة التي مرّ بها المسلمون، تحث على الحرب والقتال وتخلف البعض في جيش العسرة في معركة تبوك يعني سورة التوبة حديث عن الجهاد والحرب والقتال والصعوبات وعدم موالاة الاهل والاقارب على حساب الرسالة وبعد ذلك في الاية الثامنة والعشرين بعد المئة تقول «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» انظروا هذه الصفات الرائعة للنبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) تقول هذا الرسول ما جاء به من تشريعات من الله عزوجل ومن احكام قد ترونها صعبة وعسيرة ولكنها لصالحكم ومن اجلكم ومن اجل سؤددكم، من اجل دولتكم وقوتكم ومنعتكم، لا تتصوروا، لا تحسبوا ان هذه التشريعات وان كانت صعبة وان كانت فيها حرج عليكم، فيها معاناة ولكن هذه التشريعات وهذه الاوامر الالهية والربانية ليست هي من اجل مصلحة النبي الشخصية (صلى الله عليه وآله) وانما من اجلكم ومن اجل مجتمعكم ومن اجل سؤددكم و دولتكم ولهذا جاءت الصفات الرائعة تحث المؤمنين على الالتزام بأوامر النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) وسلم وتشريعاته وارشاداته لأن هذه الارشادات كلها لصالحهم ولمصلحتهم، «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ» يعني ليس منكم فحسب وانما هو من انفسكم يعني فيه دلالة على شدة العلاقة بالمجتمع والناس «مِّنْ أَنفُسِكُمْ»يعيش آلامكم وآمالكم وهو يعرف مشاكلكم ومعاناتكم يعني هو ليس بعيداً عن انفسكم ولهذا هو دائماً وابداً في حَرِيصٌ عَلَيْكُم،«عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ» العنت يعني الشدة والمعاناة، يعز عليه يعني يصعب عليه، شديد عليه، «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ»، هو يعيش همومكم ومعاناتكم ويتألم لآلامكم، يعز عليه ان تعيشوا الفقر والكفر والابتعاد عن الحق والعدل والقسط ويعز عليه ان تتخلفوا وان تفرحوا بتخلفكم لأن بعض المنافقين كما تعلمون فرحوا «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» كما في سورة التوبة، هؤلاء يجهلون سر هذا التشريع الالهي الرباني، هم يفرحون لأنهم تخلفوا عن ركب الجهاد، في الحقيقة القرآن يقول: الركب الجهاد خلفهم ولهذا قال «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ» وليس المتخلفون كأن هؤلاء ركب الجهاد خلفهم، هؤلاء سقط المتاع، «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ» يعز عليه من آلام ومعاناة كما كان من صفات الرسول الاكرم وسمته (صلى الله عليه وآله)، «طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى»
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يشقى على كفر الكافرين وابتعادهم عن الحق، «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» باخع يعني هالك نفسك كما في سورة الكهف كذلك في سورة الشعراء «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»وهذا طبيعة الانبياء، ابراهيم (عليه السلام) نقرأ حينما جاءت ملائكة العذاب يجادلنا في قوم لوط «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ» بعد حَرِيصٌ عَلَيْكُم يعني شديد الاهتمام بهدايتكم وسلامتكم وسؤددكم ورقيكم وتقدمكم وان تتخلصوا من عاداتكم الخاطئة وتقاليدكم البالية كما تتخلصوا من خرافتكم واساطيركم فالتكاليف التي جاء بها من اجل سعادتكم والاحكام التي الزمكم بها من اجل مجتمعكم ومصلحتكم، «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» يعني هنا خاصة بالمؤمنين طبعاً الرأفة رقة تنشأ عند حدوث ضرر بينما الرحمة رقة تقتضي الاحسان للمرحوم يعني هنا تصاعدي يعني الرأفة هي رقة تنشأ عند مس الضرر والرحمة اكثر من الرأفة رقة تقتضي الاحسان للمرحوم، «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» وهذه طبعاً صفة الله عزوجل "وتخلقوا بأخلاق الله" الله عزوجل «رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»، المؤمن ولا سيما القائد ينبغي ان يكون رؤوفاً ورحيماً بالمؤمنين وبأتباعه المخلصين يعني هناك رأفة ورحمة زائدة عما كان عليه، بعضهم قال بالمؤمنين رَؤُوفٌ يعني للعاصين ورحيم بالمطيعين، طبعاً هناك اختلافات متعددة في التفريق بين الرأفة والرحمة.
*******
خلق هذا الوجود من الرحمة وللرحمة فبُعث الأنبياء والرُسُل عليهم السلام يدعون إلي الهداية والخيروالسلام والمحبّة والفضيلة، يعني إلي طاعة الله تعالي وفيها ما فيها من سعادة الدنيا وكرامتها، ونعيم الآخرة وشرفها. حتي بُعث خاتمُ النبيّين والمرسلين، صلواتُ الله عليه وآله وعليهم أجمعين، فخاطبَ اللهُ عباده: أيها الناس، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ، ليس غريباً عليكم، ومن أوصافه أنّه يشُقُّ عليه ضُرُّكم أو هلاككم، وأنّه حريصٌ عليكم جميعاً. من مؤمنٍ أوغيرِ مؤمن، وأنّه رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ بالمؤمنين منكم خاصّة، فيحقُّ عليكم أن تُطيعوا أمرَه؛ لأنّه رسولٌ لا يصدَعُ إلاّ عن أمرِالله، وطاعتُه هي طاعةٌ لله، كذا عليكم أن تأنَسوا به وتحنُّوا إليه؛ لأنّه من أنفُسِكم، وأن تُجيبوا دعوتَه وتُصغوا إليه كما ينصحُ لكم، ويريدُ خيرَكم وسعادتكم.
وهكذا يندبُ الله وهو الرحيم الودود، العطوفُ علي الخَلق، يندُبهم مؤكداً علي إجابة رسوله وقبول دعوته، ليفوزُوا برضوانه ونعيمه، وواسعِ رحمته. ولمّا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) متخلّقاً بأخلاق الله تبارك وتعالي، كانت له صفة الرحمة مُغدقةً عليه من الله جلّ وعلا ليغدِقَها علي الناس ويفيضَها في سبيل الخير والهداية، فَمَنّ الله جلّ وعلا عليه بقوله: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» (آل عمران، ۱٥۹)، وتلك منّةٌ لله جلّ وعلا علي عباده، ففي الآية المباركة التفاتٌ عن خطابِهِم إلي خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ أصلُ المعني: لَقد لانَ لكم رسولُنا برحمةٍ منّا، ولذلك أمرناه أن يعفوا عنكم، ويستغفرَ لكم، ويشاورَكم في الأمر، وإنّما سبق هذا الكلام ليكون إمضاءً لسيرته (صلى الله عليه وآله)، وإلاّ فإنّه كان كذلك يفعل، وفيه إشعارٌ أيضاً بأنّه (صلى الله عليه وآله) إنّما كان يفعل ما يأمُره اللهُ عزّوجلّ، وأنّ الله سبحانه راضٍ عن أفعال رسوله (صلى الله عليه وآله). نعم؛ وهو الذي كان يتفقد أصحابَه كلَّ يوم، فإذا فَقد واحداً منهم ثلاثةََ أيّامٍ سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.
يا مَن لهُ الأخلاقُ ما يهوي العُلي
منها، وما يتعشّقُ الكبراءُ
زانَتك في الخُلُقِ العظيمِ شمائلٌ
تغري بهنّ فيولَعُ الكرَماءُ
رُوَي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (إنّ الله بَعثني رحمةً للعالمين)، وخطَبَ في الناس يوماً فقال: (يا أيها الناس، إنّما أنا رحمةٌ مهداة).
نعم، فقد بعثَه اللهَ تعالي هدية لعباده، لجميعهم، كيفما كانوا، وأين ما كانوا، وفي أي زمانٍ كانوا، يهديهم إلي الحقّ والعدل والإحسان، والإيمان والتقوي، وفضائل الأخلاق ومكارمها، ويستنقذهم من الضّلالةِ والظُّلم، ومساوئ الأخلاقِ والعذابِ الأليم. بل بُعث (صلى الله عليه وآله) لينشرَ الرحمة في كلّ مكان، وفي كلّ إنسان، ولكي يستطيعَ ذلك لابدّ أن يكون هو أرحمَ الناس بالناس، وقد كان كذلك (صلى الله عليه وآله)، بل وكانت رحمتُه تشمل كلّ شيء وكلَّ أحد، وكلَّ موجود، حتّي أعداءه، وغَمرت رحمتُه العاصين والمذنبين، وكذا المستشفعين، حيث سيلوذُ به آملوه، وسيسعد به مُوالوه ولسانُ حالِهم:
يا خيرَ مخلوقٍ وأعظَمَ مُرسلٍ
وشفيعَ قومٍ أذنبوا وأساؤوا
يا من لَه عزُّ الشَّفاعةِ راحماً
وهوَ المنزّهُ ما لَهُ شُفعــــاءُ
أنوارُك العُظمي إذا ما أشرَقَت
يومَ القيامةِ فالوري سُعــداءُ
*******